سماء الرقة وأرضها

tag icon ع ع ع

إبراهيم العلوش

مثل كل سوريا، السماء والأرض في الرقة بحالة احتلال، فخلال الأسبوع الماضي تصادمت في سماء الرقة طائرة روسية مع مسيّرة أمريكية، وعلى الأرض هجمت قوات من عصابات “داعش” على حاجز لجيش “الكبتاجون” الأسدي.

في السماء تتنافس قوتان كبيرتان وتستكملان الحرب الباردة بينهما والتي يمتد تاريخها منذ أربعينيات القرن الماضي، فبعد نهاية الحرب العالمية الثانية 1945، بدأت الحرب الباردة بين أكبر قوتين عالميتين قبل أن تبرز الصين كقوة عالمية تفوقت اليوم على الروس، ولكنها لم تستطع حتى الآن التفوق على الغرب.

وعلى الأرض، وبالإضافة إلى الميليشيات الكردية المدعومة أمريكيًا، تتقاتل قوتان من بقايا استيلاء “البعث” على سوريا والعراق، إذ حوّل نظام “البعث” العراقي قوة مخابراته لتأسيس تنظيمات متطرفة، وأهمها تنظيم “داعش” الذي كانت معظم قيادته من “البعثيين” العراقيين وإن كانوا بصبغة جديدة، هي الصبغة الإسلامية المتاجِرة بالدين، بعد أن كان “البعث” يتاجر بالوحدة العربية، وتحرير فلسطين، في حين كانت مخابراته تعمل بشكل ممنهج على إذلال الناس وسلبهم حرياتهم وكرامتهم، وقد أثمرت تلك المخابرات في الشق العراقي من “البعث”، وأنتجت طيفًا من القادة المتطرفين الإسلاميين وأبرزهم قادة تنظيم “داعش”.

أما “البعث” السوري فقد أنتج نظام الأسد الذي دمّر سوريا، وتحولت قوة جيشه ومخابراته أخيرًا إلى تصنيع “الكبتاجون”، بعد أن احترفا خلال عقود مهنة التعذيب والتدمير وتحويل المواطنين إلى عبيد.

أفكار “البعث” التي أُسست في الأربعينيات بتجميع حطام الأفكار النازية، وعبادة الزعيم، ورفعت شعارات الوحدة والحرية والاشتراكية، أنتجت أنظمة أبادت أجيالًا من العراقيين والسوريين، وهجّرت الملايين من أجل أن يحيا الزعيم، أي زعيم حتى ولو كان مجرد صبي عابث وغير مسؤول، أو رجل مهووس بعظمته وعظمة أفعاله من كثرة المديح والتحشيد اللذين تجندهما المخابرات وجيوش المنافقين التي تفوقت الشعارات “البعثية” بحشدها.

بناء على التوافقات الروسية- الأمريكية التي أعطت ضوءًا أخضر للتدخل الروسي في سوريا، كان من الممكن أن تنسحب القوات الأمريكية أيام رئاسة دونالد ترامب وتترك سوريا تحت الاحتلال الروسي لولا الحرب الأخيرة في أوكرانيا، التي حوّلت سوريا إلى ساحة للصراع بينهما، مثلما كانت على الصعيد الإقليمي ساحة للصراع بين بقايا “البعث” العراقي “الداعشي” وبقايا “البعث” السوري “الكبتاجوني”.

خلال عقود من حكم “البعث” لسوريا، كان من غير الممكن أن يذكر أي مسؤول حكومي أن حدود سوريا من الشرق هي مع العراق، فالرئيسان حافظ الأسد وصدام حسين اعتبرا أن أملاكهما لا يمكن أن تتجاور رغم الجغرافيا، ورغم أن أفكارهما “البعثية” المتشابهة على الورق وفي الشعارات الرسمية، مثل بناء الوحدة العربية من المحيط إلى الخليج، والتغني بماضي الأمة النقي الذي لا تشوبه شائبة الأقليات العرقية أو التباينات الطائفية التي تم إنكار وجودها، ولم يبقَ من الوطن العربي الكبير سوى القائدين “الخالدين” اللذين ينتظر الناس أن يلتهم أحدهما الآخر!

في الثمانينيات كانت الرقة محكومة من قبل المحافظ محمد سلمان، الذي أدخل الإيرانيين إليها بمنحهم أول مركز تبشير طائفي هو مزار “أويس القرني”. ورغم أن سلمان كان إداريًا ناجحًا كان يصرّ على تقديم نفسه كرجل أمن وبعقلية مساعد أول في المخابرات، إذ منع بيع أشرطة “الكاسيت” للأغاني العراقية في منطقة الجزيرة السورية، واعتبر أن دير الزور والرقة والحسكة مدن موبوءة باللهجة العراقية وباللغة الكردية، وهذا ما جعله، كمسؤول أمني للمنطقة الشرقية، يشن موجات اعتقال طالت الآلاف من الشباب الذين تم اقتيادهم إلى أجهزة التعذيب وسَوقهم بعدها إلى معتقلات صحراوية تمارس فيها المخابرات تمارين التعذيب والتجويع وانتهاك الكرامة والعرض بشكل ممنهج.

وقد ازداد هذا الاتجاه وحشية مع بدء الاعتقالات منذ بداية ثورة 2011، التي لا يزال عشرات الألوف من شبابها وبناتها يعانون فيها عذابات لم يمارسها إلا النازيون ضد اليهود في أربعينيات القرن الماضي.

اليوم تسلّمت إيران دولتي “البعث” بالشراكة مع الأمريكيين والروس والأتراك، وتفرغ نظام “البعث” السوري لصناعة “الكبتاجون” بعد أن أتعبته شعارات الوحدة والحرية والاشتراكية الكاذبة، أما “بعث” العراق فقد تحول كثير من رجال مخابراته إلى “دواعش” يحلمون بالزعيم الخالد المسلح بشعارات دينية كاذبة مثل شعارات “البعث” القومية الفاقعة.

في سماء الرقة، احتكت بتاريخ 6 من آب الحالي طائرة مسيّرة أمريكية من نوع “MQ-9” مع طائرة روسية من نوع “سوخوي 35″، وعلى الأرض لا تزال بقايا دولتي “البعث” تتصارع على السلطة لمعاودة بناء دولة المخابرات والعنف الذي تغذيه كراهية البشر بوجهيها القومي والديني.

في سماء الرقة طائرات روسية وأمريكية، وعلى الأرض ميليشيات كردية عابرة للحدود، وحواجز جيش “الكبتاجون” وعصابات “داعش” والميليشيات الإيرانية، وفي البيوت يعيش من تبقى من البشر جائعين وخائفين وبانتظار حسم حروب دولية لا علاقة لهم بها في مشارق الأرض ومغاربها، لعل نهاياتها تنتج توافقًا دوليًا لتطبيق القرار “2254”، ويتخلصون من تركات “البعث” ومن الجيوش والميليشيات التي تعبث ببلادهم وتنتهك كل ما تبقى لهم من الكرامة الإنسانية.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة