تعا تفرج

شاعر وراعي ماعز في المنفردة

tag icon ع ع ع

خطيب بدلة

قلت لصديقي ميم ميم: إنك تريدني أن أترك الماضي، وأحكي عن الحاضر والمستقبل، وأنا معك، وباصم لك بالعشر، ولكنني أرى أحوالنا، في الماضي والحاضر والمستقبل، ينطبق عليها قول شادية في أغنية “مين قَلّك تسكن في حارتنا”: لو أبويَ يعوز فنجال قهوة، أعمل لُه شاي وأدّيه لأمي، وخيالك يجي على سهوة، ما افرقش ما بين خالتي وعمي!

سأروي لك هنا، بالتداعي، حكاية سمعتها عن شاعر كبير، اعتقلته سلطاتُ بلدنا، وهي سلطات تعتقل كل إنسان تظهر عليه “أعراض” التفكير أو الإبداع، أو تعتقله احتياطًا قبل أن تظهر عليه الأعراض. وضعوه في زنزانة منفردة، شهرين، فكادت روحه أن تطق وتنفجر، فهو اجتماعي بطبعه، محب للطبيعة، والهواء الطلق، وحركة البشر. وقد أحس بقدوم الفَرَج، عندما نقلوا إلى زنزانته، فجأة، راعي ماعز معتقلًا.

وقصة وجود هذا الراعي في المعتقل عجيبة، فقد كان، عصر ذات نهار، يرعى عنزاته في مكان قريب من الحدود التركية، جالسًا على صخرة مرتفعة، يتفكر في جمال تَيْسِهِ الذي تعشقه العنزات، وتحترمه التيوس الأخرى لوسامته وهيبته، وراح يسبّح بحمد الله الذي خلق للتيس هذه اللحية المسترسلة، المتناغمة مع وجهه الرائع، وفجأة، جاء رجل من جهة الجنوب، راكضًا، ملهوفًا، لاهثًا، عطشًا، طلب منه جرعة ماء بارد، فأعطاه، وسأله: الاسم بالخير؟ قال أبو سمعو. قال: أنعم وأكرم، بماذا أستطيع أن أخدمك؟ فقال إنه يتمنى أن يبادله على ثيابه. سأله الراعي، بدهشة، عن السبب، فقال إنه تلاسن مع أم سمعو، وتطورت الملاسنة بينهما فضربها، فذهبت إلى دار أهلها مولولة، فاجتمع أعمامها، وأخوالها، وأبناؤهم، وتسلحوا بالعصي، والسكاكين، والبمبكشنات، وهجموا عليه وهم يقسمون الأيمان على أنهم سيقتلونه، فصعد إلى السطح، وقفز إلى الزقاق، وركض هاربًا متلفتًا، ولولا أنه فعل ذلك لقضوا عليه، وهو الآن يريد أن يدخل الأراضي التركية، من تحت الشريط، لأن شبح أولئك القتلة يلاحقه، ولكن ثيابه الأنيقة لا تساعده على ذلك، ولا سيما الكرافة، التي يخشى أن تعلق بالشريط المانع في أثناء مروره من تحته.

صفن الراعي، وحسبها في ذهنه. طلع معه أن ثياب هذا الرجل نفيسة، غالية الثمن، وأما ثيابه هو، فلو ألقاها في نار مشتعلة، لما اضطرمت، ولا توهجت، بل ربما فشت، وانطفأت، وبسرعة هائلة تمت عملية المبادلة، وانطلق أبو سمعو نحو الحدود، وركض الراعي، قاصدًا أقرب سطح مائي يشبه المرآة، وشرع يتأمل نفسه بالثياب الأنيقة، ويقول لنفسه: يا سلام، صَدق من قال إن نصف الإنسان خلقة، ونصفه الآخر خرقة، ومؤكد أن زوجتي، حينما أعود إلى البيت، ستحبني كما تحب العنزات، وفجأة، طبت عليه دورية أمنية، وألقت القبض عليه، معتقدة أنه الرجل المطلوب، أبو سمعو، وعبثًا حاول إفهامهم أن غريمهم صار في تركيا، وأنه ليس سوى راعي ماعز.

المهم، في تلك الزنزانة، استأنس الشاعر بالراعي، وصار يقرأ له من شعره، والراعي يبكي، إلى أن انتهت القصائد، ووقتها عانقه الراعي وقال له: سبحان الله، لحيتك تشبه لحية تيسي، الخالق الناطق!





×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة