الصحفي.. صديق الجميع وصديق لا أحد

tag icon ع ع ع

علي عيد

يكابد الصحفي من أجل المعلومة، فهي ضالته ومعيار نجاحه، كما أنها الجمرة التي تحرق إن أخفاها أو أساء استخدامها أو ضلّل الجمهور بحقيقتها.

خلف المعلومة هناك المصدر، سواء كان صانع قرار أو وسيطًا من العارفين، أو المكلفين بتمرير وتسريب المعلومات.

سيبقى الصحفي بحاجة إلى مصدر المعلومة، وغالبًا ما تقاس قدرته على الوصول تحت الضغط الذي يحكم طبيعة المهنة بعدد أرقام الهواتف التي يحتفظ بها في دفتره وضمن قاعدة بياناته، وكذلك تواصله الدائم مع تلك المصادر لإشعارهم بأنه حاضر دومًا، وهو ما يمكن تسميته بنك الصحفي من المصادر.

الصحفي وصانع القرار كلاهما بحاجة إلى الآخر، وسيبقى الصراع قائمًا بين الصحافة الحرة ومن يملكون المعلومات، وستبقى العلاقة مضطربة على المستوى العام، ولكنها تصبح غير ذلك على المستوى الفردي عندما يتمكن صانع القرار من افتراس الصحفي أو استخدامه مطية بالترغيب أو الترهيب.

في كثير من الحالات ليست هناك ضمانات لنزاهة الصحفي سوى ضميره المهني، لكن الصحافة بوصفها مهنة كاشفة، فهي ستظهر الخلل.

الخوف من الصحافة والرغبة بالاستفادة من صوتها العالي دفعا كثيرًا من رجال الأعمال لتأسيس وسائل إعلام، ولطالما كانت الصحافة الحكومية أيضًا منصة للتسويق والكذب، ويختلف الأمر تبعًا لمستوى الرقابة المجتمعية وقدرة دافعي الضرائب على محاسبة السياسيين ورجال السلطة، وهذا ليس متوفرًا بشكل ملحوظ سوى في بيئات ودول قطعت أشواطًا في الديمقراطية وحرية الصحافة والتعبير.

حتى وإن امتلكت الحكومات أو رجال الأعمال صحافتهم الخاصة، يبقى القلق من الصحفي قائمًا، ما يدفع إلى محاولة شرائه أو استمالته، أو تمرير المعلومة عبره.

ويندفع معظم الصحفيين حديثي الخبرة نحو بناء علاقة مع مصادر المعلومات دون محاذير، لكنهم يصطدمون في كثير من الأوقات بإداراتهم عند الحصول على معلومات من مصادر يعتقدون أنها نزيهة، لكن تكرار الأمر في مواقع “فلترة” المعلومات بالجسم التحريري يكسب الصحفيين خبرة حيال استخدامهم في تمرير معلومات مضللة، أو التسويق لتلك الجهات.

هناك صحفيون “كبار” لوثوا سمعتهم بالانحياز، لأن مصادر المعلومات تمكنت من شرائهم، أو أنهم ينتمون إلى تيارات أيديولوجية يسارية أو يمينية تدفعهم للتعاطف مع روايات تلك الجهات.

أسوق مثالًا لصحفيين بريطانيين بارزين ربطتهما علاقة بالرئيس السوري السابق، حافظ الأسد، وعاينا الأحداث في سوريا بعهد ابنه بشار الأسد، وهما روبرت فيسك (توفي عام 2020) وباتريك سيل (توفي عام 2014).

كان روبرت فيسك واحدًا من الصحفيين المعروفين على مستوى العالم في تغطيته للحروب بالشرق الأوسط لنحو خمسة عقود، وعمل لمؤسستين عريقتين هما “الإندبندنت” و”التايمز”، وغطى مجزرة حماة التي ارتكبها نظام حافظ الأسد، وحرب الخليج الأولى والثانية، وغزو العراق، والحرب في أفغانستان، والحرب الأهلية في لبنان، والتقى زعيم تنظيم “القاعدة”، أسامة بن لادن، ثلاث مرات، لكنه ختم مسيرته المهنية بدليل واضح على انحيازه لمصلحة النظام السوري، إذ جرى تقريبه وتوفير كل الإمكانيات اللوجستية له بما فيها التحرك مع جيش النظام، وهو ما لم يتوفر لصحفي أجنبي مستقل.

روى فيسك أحداث حلب وحمص بانحياز كامل، كما كرر رواية النظام في الهجوم الكيماوي على الغوطة، مشككًا باستخدام غازات سامة، إذ وصف الاختناقات بأنها ناتجة عن استنشاق الغبار، متجاوزًا في الإنكار كل الروايات والأدلة والشهود، حتى إنه بات يظهر على القنوات الرسمية السورية، كما كتب مقالات في “الإندبندنت” يكرر فيها روايات للمستشارة الرئاسية بثينة شعبان، مثل قصة الخبازة الحمصية المسيحية التي هددها رجال ملتحون لأنها تخلط الخبز بـ”الويسكي”.

أما الصحفي باتريك سيل، صاحب كتاب “الصراع من أجل سوريا”، فهو الآخر استفاد من علاقته بحافظ الأسد، وقدم كثيرًا من الروايات متأثرًا بما وفره له نظام الأسد من فرصة نادرة، وبالتالي تركت هذه العلاقة ندبًا كبيرًا في تاريخ الرجل كصحفي بارز عمل في “الأوبزفر” و”التايمز”.

حاول سيل التملص من ارتباطه الوثيق بدعم نظام الأسد خلال السنوات التي أعقبت ثورة 2011، لحين وفاته، إذ ألمح إلى بشار الأسد من باب تأخره بخطوات الإصلاح، لكنه تعامى عن المجازر، وفي الوقت الذي كان يريد لـ”الدولة” السورية أن تستمر، لم يبذل جهدًا في انتقاد مجازرها، لدرجة أنه حمّل عصابات دون تحديدها مسؤولية مجزرة الحولة.

وعندما توفي، قالت وكالة “سانا” وصحيفة “تشرين” الحكوميتان، إن أبرز مواقف فيسك الأخيرة قوله، “إن الكيان (الإسرائيلي) يسعى للسيطرة العسكرية على المنطقة، ويضغط على الولايات المتحدة من أجل إسقاط محور المقاومة، مؤكدًا أنه لا يمكن فصل ما يجري في سوريا عن التطورات في المنطقة”.

بقي أن نذكر أن هناك صحفيين التقوا حافظ الأسد أو بشار الأسد، أو غطوا الأحداث في سوريا، بعضهم دفع حياته ثمنًا مثل الصحفية الأمريكية ماري كولفن، التي قُتلت في حي بابا عمرو، حيث كانت تغطي قصف النظام المروع، وبعضهم الآخر لم تختلط عليه محاولات استخدامه أو استخدام الإعلام لتمرير الرسائل، كما حصل مع الصحفي الأمريكي في “فورين أفيرز” جوناثان تبرمان.

ذات مرة، ظنّ مراسل صحفي سوري معروف أنه صديق رجل أمن بارز في النظام، فمرر الأخير عبره معلومة حول تحضيرات لوجستية سورية على الحدود الشمالية الشرقية إبّان غزو العراق 2003، نشر الصحفي المعلومات في صحيفته، أنكر النظام المعلومات المنشورة، وقام رجل الأمن بسجن صديقه الصحفي ستة أشهر.

لزملائي الصحفيين، يجب أن تهتموا بعلاقتكم مع المصادر، نعم وسّعوا دائرة صداقاتكم، وعندما تبدؤون بكتابة مادتكم الصحفية اطرحوا كل تلك العلاقات جانبًا، ولكي تحافظوا على استقلاليتكم ومهنيتكم يجب أن تتذكروا دائمًا أنكم “أصدقاء الجميع، أصدقاء لا أحد”.. وللحديث بقية.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة