عبر وسائل التواصل الاجتماعي  

دمشق.. من حبيبة الشعراء إلى مثار سخرية

tag icon ع ع ع

عنب بلدي – يامن مغربي

“هذي لها النصر لا أبهى فما هُزمت.. وإن تهددها دهر من النوب

والانتصار لعالي الرأس منحتم.. حلوًا كما الموت، جئت الموت لم تهب

شآم ما المجد؟ أنت المجد لم يغب!”

كتب الشاعر اللبناني سعيد عقل الأبيات السابقة في مديح مدينة دمشق، وغنتها المطربة اللبنانية فيروز في عام 1960، وهي واحدة من عشرات القصائد التي كتبها الشعراء من البحتري وصولًا إلى أحمد شوقي وحتى أحد أشهر الشعراء السوريين في تاريخ سوريا المعاصر، نزار قباني، كتعبير عن مشاعرهم تجاه مدينة كانت يومًا مركز حكم للدولة الأموية، وأقدم عاصمة مأهولة بالسكان في العالم، إلى جانب مئات الدراسات والكتب التي وصفت أحوال المدينة وتاريخها وسكانها، ككتاب “دمشق مدينة السحر والشعر” لمحمد كرد علي، مؤسس أول مجمع للغة العربية.

لعب الموقع الجغرافي لدمشق، في جنوبي سوريا، وقربها من المدن الرئيسة في لبنان والأردن وفلسطين والسعودية، خلال الحكم العثماني، دورًا بأن تكون مركزًا تجاريًا واقتصاديًا، ومنطلقًا إلى مناطق الحجاز بالنسبة للحجاج والمعتمرين، بالإضافة إلى اكتسابها عاطفة دينية عند المسلمين والمسيحيين، لتواتر الأحاديث النبوية التي تحدثت عن ارتباطها بحوادث تتعلق بيوم القيامة، وباعتبارها كانت منطلقًا لبولس الرسول، الذي انطلق منها لينشر الدين المسيحي.

ووفق دراسة نشرها الباحث إيبش أحمد في عام 1996، حملت عنوان “معالم دمشق التاريخية“، ورد اسم دمشق في وثائق مصرية وآشورية ما قبل قيام الممالك الآرامية في سوريا.

“سلام من صبا بردى أرقّ.. ودمع لا يكفكف يا دمشق

ومعذرة اليراعة والقوافي.. جلال الرزء عن وصف يدقّ

وذكرى عن خواطرها لقلبي.. إليك تلفّت أبدًا وخفق

وبي مما رمتك به الليالي.. جراحات لها في القلب عمق

دخلتك والأصيل له ائتلاق.. ووجهك ضاحك القسمات طلق

وتحت جنانك الأنهار تجري.. وملء رباك أوراق وورق

وحولي فتية غرّ صباح.. لهم في الفضل غايات وسبق”

أحمد شوقي

لكن هذا الغزل كله والأهمية التاريخية والسياسية والثقافية والدينية لدمشق في التاريخ القديم والحديث، لم يمنع ظاهرة السخرية منها ومن سكانها لدى شريحة واسعة من السوريين، إذ يمكن ملاحظتها بسهولة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتجلّت خلال سنوات ما بعد الثورة السورية، نتيجة استمرار سيطرة النظام السوري عليها، وتراجعها على المستوى العمراني والخدمي، وفي الجانب الاجتماعي يلمح أو يصرح كثيرون على مواقع التواصل حول عدم مشاركة قسم من الدمشقيين في المظاهرات على نطاق واسع في قلب المدينة، على عكس ريفها، وفي الغوطة الشرقية تحديدًا.

تشوه بصري يقلب الغزل إلى سخرية

“مشيئة الله أن ينتشر ياسمين الشام في الأرض”، بقدر ما تبدو هذه العبارة عاطفية لوصف جمال زهور الياسمين، إلا أن استخدامها عبر وسائل التواصل يذهب باتجاه السخرية من العاصمة السورية.

إلى جانب هذه العبارة، هناك عشرات النكات والمواقف والعبارات الساخرة من المدينة تعود لأسباب اجتماعية وتاريخية أيضًا.

تمتعت دمشق لعقود طويلة بتنظيم عمراني مع وجود الآثار الرومانية والقلعة الأيوبية (قلعة دمشق)، والبساتين الخضراء التي تحيط بها، وصولًا إلى اهتمام السلطان العثماني بها إدراكًا لأهميتها الاستراتيجية في خطوط النقل، لينشأ خط الحجاز الواصل من اسطنبول إلى المدينة المنورة عبر دمشق لنقل البضائع والحجاج، ودخول الكهرباء إلى المدينة، وإنشاء خط “الترامواي” في عام 1907، سبقه إنشاء المدرسة الطبية في 1903، كنواة لجامعة دمشق لاحقًا.

لعب دخول “الترامواي” إلى دمشق دورًا في تطوير المدينة ونشوء أحياء جديدة، وفق ما ذكره المؤرخ سامي مروان مبيض في كتابه “سكة الترامواي” الصادر في 2022، ثم بدأت المدينة بالتوسع وشهدت نهضة معمارية بالأحياء والمناطق الجديدة في فترة الانتداب الفرنسي، ضمن سياق نهضة فكرية وسياسية وثقافية في أربعينيات القرن الـ20، وفق ما ذكرته دراسة حول التطور العمراني لدمشق، نشرتها منظمة “معابر لسمير عنجوري.

“هذي دمشق وهذي الكأس والراح

إني أحب وبعض الحب ذبّاح

أنا الدمشقي لو شرحتم جسدي

لسال منه عناقيد وتفاح”

نزار قباني

رويدًا رويدًا تغيرت معالم المدينة وازدادت بالاتساع، وانتشرت المباني الأسمنتية وتآكلت المساحات الخضراء فيها، وسادت فيها الألوان الرمادية والسكرية وتحديدًا في المباني الحكومية، وجف نهر بردى، وبدأت صورة بصرية مختلفة لدمشق عن تلك التي صورها الشعراء لسنوات، وذلك منذ وصول حافظ الأسد إلى سدة الحكم في سوريا عام 1971.

وفق دراسة عنجوري، أصاب التشوه وقبح المنظر أغلب أحياء وأبنية دمشق.

هذه الصورة البصرية التي اختلفت في مخيلة الناس، ولدى الجيل السوري الجديد تحديدًا، يراها المؤرخ سعد فنصة أحد أسباب نشوء سخرية من دمشق خلال السنوات الماضية.

وقال فنصة لعنب بلدي، إن معظم مباني المدينة ذات ألوان باهتة، وبدأ التشوه يصيب المدينة منذ السبعينيات، بعد أن حُكمت من أشخاص أصحاب ثقافة فقيرة وضحلة، غيّرت عمران المدينة، وجعلتها تميل للبشاعة لا للجمال، وبالتالي بدأت تتغير النظرة إليها عند مقارنتها بمدن أخرى.

وأشار فنصة إلى أن دمشق حافظت على جمالها لسنين طويلة، رغم كل الكوارث الطبيعية أو الحروب والأزمات التي ضربتها، لكن الحال تغيرت فيما بعد.

زينت زهور الياسمين البيوت الدمشقية، وكانت تزحف على الجدران وتسقط هذه الزهور على الشارع، وكان عمال النظافة صباح كل يوم يكنسون الحارات من الياسمين المتساقط على الجوانب، وهذه أحد أسباب اقتران المدينة بهذا النوع من الزهور الموجود حتى في شوارعها الحديثة وفق فنصة.

الياسمين حضر أيضًا في قصائد أحد أبرز الشعراء الدمشقيين في التاريخ الحديث، الذي ربط المدينة بنفسه باعتبارها أمًا وحبيبة أيضًا، الشاعر الراحل نزار قباني، وحمل آخر دواوينه عنوان “أبجدية الياسمين“.

فنصة أشار في حديثه لعنب بلدي، إلى أن المحافظات السورية وضمن أجواء تنافسها حملت أنواعًا من السخرية والنكات المتبادلة، أكثر من كونها موجات من الكراهية الحقيقية فيما بينها.

منطقة المهاجرين في دمشق أيلول 2022 (عدسة شاب دمشقي)

منطقة المهاجرين في دمشق أيلول 2022 (عدسة شاب دمشقي)

تنافس المدينة والريف ينعكس على دمشق

شهدت مدينتا دمشق وحلب، أكبر مدينتين في سوريا، تنافسًا حادًا تاريخيًا على الصعد السياسية والاقتصادية، تحول لاحقًا إلى سخرية متبادلة مبطنة بالنكتة، وهما ليستا حالة معزولة، إذ يمكن ملاحظة الأمر أيضًا بين مدينتي حمص وحماة أيضًا على سبيل المثال.

يمكن اعتبار هذه التنافسية بين المدن أحد أسباب السخرية من دمشق، وفق الباحث الاجتماعي صفوان موشلي، الذي قال لعنب بلدي، إنه وبالإضافة إلى هذا الأمر، عادة ما تكون العواصم مكروهة من أبناء المدن الأخرى، لاستحواذها على الموارد المالية والجاه والسلطة وتمركز السلطة السياسية الرئيسة فيها، وتتحول صفة سكانها إلى مذمة في الثقافة الشعبية، كالقول لدى الذم “شامي، بغدادي، بيروتي”.

هذه الظاهرة تنشأ بسبب شعور عدم الرضا عن توزيع الثروات والجاه والسلطات بين العاصمة والمدن الأخرى، حتى ولو كانت لها أهميتها الثقافية والاقتصادية والاستراتيجية، بحسب موشلي.

لعبت مدن دمشق وحلب وحمص دورًا سياسيًا واقتصاديًا مهمًا في تاريخ سوريا الحديث، ففي حين كانت دمشق العاصمة السياسية، وحلب الاقتصادية، كانت حمص منفذًا حدوديًا باتجاه مدن لبنانية بحكم موقعها الجغرافي، عدا عن العائلات السياسية التي انحدرت منها، مثل عائلة الأتاسي التي حكم سوريا منها كل من هاشم الأتاسي (ثلاث مرات 1936- 1939، و1949- 1951، و1954- 1955) ونور الدين الأتاسي (1966- 1970).

التنافس السياسي بين دمشق وحلب في السنوات ما بين انتهاء الاحتلال الفرنسي لسوريا عام 1946 وحتى وصول حزب “البعث” الحاكم إلى السلطة عام 1963، تجلّى بميل العاصمة والكتلة الوطنية إلى العاصمة المصرية القاهرة، في حين ذهبت حلب باتجاه الحكم الهاشمي في العراق وحلف بغداد.

من جهة أخرى، فإن التنافس ما بين الريف والمدينة يلعب دورًا في نشوء السخرية، بحسب موشلي، خاصة أن أبناء المدن ومنهم أبناء دمشق يتصفون بمرونة أكبر، تجعلهم أكثر قدرة على التعامل مع أنماط مختلفة من الشخصيات التي بدروها قد لا تكون صاحبة أخلاقيات عالية، بعكس أولاد البلدات الصغيرة والأرياف، ويُنظر إلى هذه المرونة باعتبارها قلة أخلاق ووطنية، رغم أنها تسمح لصاحبها بمحاكمة الأمور بطريقة مختلفة، وفق موشلي.

وأضاف أن النظرة تذهب إلى اعتبار هذه المرونة خيانة وعدم وطنية في الظروف السياسية، وفي غياب نخب قادرة على شرح الفوارق، ينشأ الشرخ بين هذه الأطراف جميعها وينمو هذا الشرخ بشكل أكبر خلال الظروف القاسية التي تمر بها البلاد.

من أين جاء اسم دمشق؟

ورد اسم دمشق في ألواح الفرعون المصري تحتمس الثالث، ويُلفظ “تيماسك”، وكذلك في النصوص الآشورية التي أوردت اسم “دمشقا”، وفي النصوص الآرامية باسم “دارميسك”، وتعني الأرض المسقية أو أرض الحجر الكلسي.

ووفق الموقع الرسمي لمحافظة دمشق، تعود التسمية نسبة إلى سام ابن النبي نوح.

في اللغة العربية، ذكر معجم لسان العرب أن المدينة سميت على اسم بانيها دمشاق بن كنعان، أو دامشقيوس.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة