tag icon ع ع ع

لمى قنوت

مع مأسسة ومهننة الحراك النسوي في إطار المنظمات غير الحكومية كشكل وحيد أو طاغٍ على الأشكال التنظيمية الأخرى، وقع عدد كبير من تلك المنظمات في فك الأنجزة، وانجروا أو تقوقعوا في ديناميات وسلوكيات وقوالب هي بالتضاد مع المبادئ والقيم والفكر النسوي، سواء أدركوا ذلك أم استدرجوا إليه وتقولبوا معه، وعليه، يركز هذا المقال على بعض آثار المهننة على الحراك النسوي التي قيدت تطوره ليصبح حركة اجتماعية.

 الموقعية والامتيازات

يُسهل ويدعم النموذج التنظيمي وفق المنظمات غير الحكومية صناعة “نخبة”، تسيطر على الحيز النسوي العام وتتسيد المنابر وتستحوذ عليها، بدعم من الممول وماكينته الإعلامية وتحالفاته، وتتحول إلى حراس البوابات (GATE KEEPER) فتشكل حاجزًا ضد مشاركة وسماع الأصوات الأخرى. تشكل هذه الموقعية والامتيازات سلطوية تتعارض مع الفكر النسوي.

استخراجية مع القاعديات

إن استخلاص معارف وتجارب ورؤى النساء بتنوعاتهن، وتسجيلها وتداولها ومشاركتها واستخدامها بطريقة استخراجية دون إدراك لموقعية الباحثات والباحثين والمراكز البحثية والمنظمات النسوية وامتيازاتها وديناميات القوة، تنقش منطقًا مفاده إعادة تشكيل خريطة معرفية مهيمَن عليها وعلاقات سلطة جديدة، وإدخال منطق السوق في الاستحواذ على السرديات وبالتالي برامج مبنية على سياسات الظهور بدل احتياجات القاعديات، وسياسات احتكار “المايكروفون” بدل تمريره.

اعتذارية مع هياكل السلطة

بدافع المصالح وتنفيذ المشاريع المفيدة وغير المفيدة في الوقت والإطار المتفق عليه مع الجهات المانحة، تكون المنظمات ودية ومفاوضة واعتذارية مع هياكل السلطة، سواء كانت سلطة دينية أو سياسية أو اقتصادية، كما أن التأرجح في تسييس قضايا وحجب السياسة عن قضايا أخرى، أمر يتعارض مع ثورية الفكر النسوية التي تتحدى هياكل السلطة.

الضدية مع النقد

ثمة سلوكيات عدوانية وإقصائية تتلطى تحت عباءة النسوية، توجه سهامها ضد نساء ونسويات مارسن النقد، يبدأ هذا السلوك فرديًا، ثم يتحول إلى هجوم جماعي، بفعل “الشللية” ضد صاحبة النقد، ويتواطأ صمت الكثيرات مع تلك السلوكيات، سواء كان هذا الصمت بسبب عدم الاكتراث أو تقاطع المصالح أو للنأي بالنفس للنجاة من رذاذ الإقصاء والعدوانية. قد تختلف السيناريوهات ضد الناقدات قليلًا حسب ديناميات العلاقات، لكن انعكاسات هذا السلوك العنيف لا يقتصر على تسميم المناخ وتقويض التشاركية وتعزيز النزعة التسلطية لبعضهم فحسب، بل يمتد لتصبح ممارسة النقد حقل ألغام، بفعل شخصنته.

إن حقول الفكر النسوية، باختلاف مدارسها، قامت على النقد، وبتغييبه أو محاصرته لا يمكن التفكيك والتغيير والبناء على التراكم المعرفي.

التعاون والتضامن بين النسويات من جهة والمنظمات النسوية والنسائية من جهة أخرى يمر بصعود وهبوط حسب المشروع ومدته، وأحيانًا لا يتعدى صياغة بيان والتوقيع عليه، أي تعاون ظرفي مؤقت، وبالتالي فإن أشكال التعاون والتشبيك الحالية لا تخلق روابط ذات معنى حقيقي ومستدام، بل تكون شكلًا أدائيًا تجاه المشروع والممول.

وقد تدفع التنافسية المرئية وغير المرئية إلى الامتناع حتى عن هذا المستوى من التعاون، فتتكرر التجارب والمشاريع دون البناء على ما سبق أن قُدم. وتقود التنافسية السامة المرتكزة على التزاحم والإقصاء إلى تقوقعات تتعارض بالمطلق مع الفكر النسوي.

إعادة إنتاج هياكل الإيذاء

بين “الشللية” والتنافسية والتسلطية والسلطوية والنرجسية وسياسات الظهور وتقاطع مصالح “النخبة”، تسمح المساحات ودينامية العلاقات في بعض التجمعات والمنظمات النسوية بإعادة إنتاج هياكل القمع والاستغلال والإيذاء الموجود خارج هذه التجمعات، سواء من ناحية الاستغلال في العمل وفي الإنتاج المعرفي، والأذى النفسي الناجم عن الاستغلال أو الإقصاء، ومساندة متحرشين والدفاع عنهم عندما تتقاطع مصالح “النخبة” معهم.

لا يقف الفكر النسوي عند الأفكار والنظريات، بل هو ممارسة ونقد وتعلم يومي، ومن هنا تأتي أهمية إصلاح أو إعادة هيكلة هذه المساحات ومحاربة التسلطية والاستحواذ، ومساءلة المتنفذات الأكثر وصولًا إلى السلطة ومصادر التمويل، وردع “الهجمات الجماعية” القائمة على “الشللية” وتقاطع المصالح ضد الأصوات الناقدة أو المتضررة في المجموعة أو داخل المنظمة الواحدة، وبناء آليات للعدالة التحولية لتحول دون تكرار وإعادة إنتاج الظلم ومنظومة القمع الموجودة في المجتمعات الذكورية.

الاستقلالية والتحكم

بعد نيل دول المنطقة استقلالها، صمم النظام الرأسمالي العالمي والدول المستعمِرة سابقًا قوالب منظمات المجتمع المدني بطريقة يسهل التحكم بها، بالتوازي مع دعم بعض الدكتاتوريات المحلية الفاسدة، لتكون بديلًا عن الدولة المنسحبة من مسؤولياتها، أو تقويضًا للحركات الاجتماعية الشعبية كما هي الحال في فلسطين المحتلة بعد اتفاق “أوسلو”. تعاظم دور المنظمات غير الحكومية في وقتنا هذا، فمثلًا، بعد تفجير مرفأ بيروت في 4 من آب 2020، صُب معظم الدعم الدولي بين أيدي منظمات المجتمع المدني تفاديًا لهدره من قبل سلطات سياسية فاسدة، لكن ذلك لم يوقف الهدر والفساد إنما أُعيد إنتاجه بهياكل جديدة، وأصبحت المنظمات من مزودي الخدمات.

خلاصة القول، من الصعب تحول الحراك النسوي بشكله الحالي إلى حركة اجتماعية، فما زال الشكل التنظيمي للمنظمات غير الحكومية جذابًا حتى الآن، فهو سهل ومريح وممول ومدعوم ويؤمّن السلطة والظهور، لكن تأثيره محدود وغير جذري ولا يستطيع التعبئة من القاعدة إلى الهرم وبناء الثقة وروابط التضامن لتفكيك هياكل القمع.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة