دفنوهم بصمت.. آليات القتل والإخفاء في مستشفى “تشرين” العسكري

مبنى إدارة الخدمات الطبية في منطقة برزة في شمال مدينة دمشق- 3 تشرين الأول 2023 (رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا)

camera iconمبنى إدارة الخدمات الطبية في منطقة برزة في شمال مدينة دمشق- 3 تشرين الأول 2023 (رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا)

tag icon ع ع ع

يكثر ذكر مستشفى “تشرين” العسكري في الحديث عن عمليات التصفية والإخفاء القسري للمعتقلين ضمن نظام الاحتجاز السوري، ودور المخابرات والشرطة العسكرية والطواقم الطبية والإدارية فيه، لكن التفاصيل والمسارات التي تسلكها جثث المعتقلين الذين قتلوا تحت التعذيب ظلت لسنوات مجهولة، وتحمل تكهنات ومعلومات متضاربة من الناجيين منه، دون معلومات دقيقة تُذكر حول الأسرار الإدارية في هذا المستشفى، ودور المسؤولين فيه.

هذا ما عملت “رابطة معتقلي ومفقودي صيدنايا” على توثيقه من خلال بحث صدر اليوم، الثلاثاء 3 من تشرين الأول، كشف عن تفاصيل المسارات التي تسلكها جثث المعتقلين الذين قتلوا تحت التعذيب، والمسؤولين عن عمليات توثيقها وإعداد الملفات الخاصة بها وحفظها، وإعطاء الأوامر بنقلها ودفنها في المقابر الجماعية.

دفنوهم بصمت

حافظ النظام السوري خلال السنوات الماضية على سرية العمليات العسكرية والتصفيات التي تحدث في المشافي العسكرية عامة، ومستشفى “تشرين” العسكري خاصة.

وتكمن أهمية البحث الذي أعدته “رابطة معتقلي ومفقودي صيدنايا” في العدد الكبير من الشهادات التي حصلت عليها الرابطة ودقة ورسم التفاصيل التي اتبعت في عمليات الاختفاء القسري التي كانت تحدث، وكشف أجهزة الدولة المتورطة بعمليات الإخفاء وآليات حدوثها، بحسب ما قاله مؤسس ومنسق “رابطة معتقلي ومفقودي صيدنايا”، دياب سرية، لعنب بلدي.

من يعطي الأوامر؟ من يحدد المسارات التي تسلكها جثث المعتقلين الذين قضوا تحت التعذيب؟ من المسؤول عن عمليات توثيقها وإعداد الملفات الخاصة بها وحفظها وإعطاء الأوامر بنقلها ودفنها في المقابر الجماعية؟ أسئلة أجابت عنها الرابطة بعد بحث أجرته واعتمدت فيه على وثائق حكومية مسربة  بالإضافة إلى 154 مقابلة مـع 32 مستجيبًا وأطباء وممرضين عملوا في المستشفى العسكري  وآخرون عملوا في المخابرات العسكرية أو الشرطة العسكرية والأمن السياسي والقضاء العسكري.

صور الأقمار الصناعية للمقابر الجماعية في منطقة جسر بغداد في ريف دمشق في 2016 (رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا)

صور الأقمار الصناعية للمقابر الجماعية في منطقة جسر بغداد في ريف دمشق في 2016 (رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا)

ويتحدث البحث عن مكان ضمن مستشفى “تشرين” العسكري في دمشق يسمى بـ”النظارة” وتديره الشرطة العسكرية تحت إشراف “الفرع 227” التابع للمخابرات العسكرية، وهو المحطة الأولى التي يتم فيها استقبال المعتقلين المرضى، وكذلك جثامين المتوفين سواء كانوا من هؤلاء المرضى أو ممن فقدوا حياتهم في أحد مراكز الاحتجاز.

وتترافق عملية النقل من مراكز الاحتجاز إلى المستشفى مع اعتداءات وحشية تصل إلى حد فقدان الحياة في كثير من الحالات. فيما يجبَر المعتقلون المرضى على نقل وتجميع جثث من توفي منهم عند الباب الخارجي للنظارة، وفي مرحلة لاحقة وضعها في الآليات.

وبحسب ما أفاد به سرية عنب بلدي فإن البحث يقدم معلومات دقيقة عن جرائم تعذيب وحشية حصلت في مستشفى تشرين العسكري، كما يحدد بدقة أماكن دفن المعتقلين المتوفين والجهات التي تحتفظ بنسخ عن ملفاتهم.

وأشار إلى أن حكومة النظام لا يمكنها الإنكار أو الادعاء بجهل هوية الضحايا، ولا يعوقها شيء عن كشف أسماء المعتقلين المتوفين وأعدادهم سوى الإرادة السياسية.

ودعا سرية المجتمع الدولي والدول المطبّعة مع النظام السوري إلى التعامل بجدية مع المعلومات الواردة في البحث، ومطالبة النظام بتسليم قوائم أسماء المعتقلين المتوفين الموجودة في القضاء العسكري والشرطة العسكرية كخطوة أولى صغيرة على طريق حل قضية المفقودين.

ويتيح وجود مثل هذه السجلات والتوثيقات فرصة كبيرة للمؤسسة الدولية الجديدة لاستجلاء مصير المفقودين في سوريا وأماكن وجودهم وتحديد نقطة انطلاق أولى للكشف عن مصير الضحايا، بحسب ما قاله سرية لعنب بلدي.

ويقدم البحث معلومات عن الأقسام والشُعب المعنية بالتعامل مع المعتقلين المرضى ويشرح أدوارها الأساسية، كما يتحدث عن قسم الإسعاف “البديل” المحاط بحراسة مشددة، والذي تم استحداثه في بداية الثورة عام 2011 بهدف عزل المعتقلين المرضى عن باقي مرضى المستشفى، مع تقييد دخول الأطباء إلا الموالين للنظام والذين يترافق دخولهم بإساءة أو تعذيب في حق المعتقلين المرضى.

كما كشف عن دور شعبة الطبابة الشرعية في مستشفى “تشرين” العسكري في تزييف أسباب وفاة المعتقلين الحقيقية وتسهيل عمل المفرزة الأمنية في استلام الجثث، والإساءة إليها قبل نقلها إلى المقابر الجماعية، بالتعاون مع الشرطة العسكرية المسؤولة عن عمليات توثيق الجثث وتصويرها وإعداد الملفات اللازمة لعرضها على القضاء العسكري في مرحلة لاحقة، بالإضافة إلى مسؤوليتها عن عمليات التحميل وحماية الآليات المعدة لذلك.

 أنماط التصوير ومنهجية الترقيم-3 من تشرين الأول 2023 (رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا)

أنماط التصوير ومنهجية الترقيم-3 من تشرين الأول 2023 (رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا)

وبحسب مدير برنامج التوثيق وجمع الأدلة في رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا، شادي هارون، “حصلت عمليات التصفية والإخفاء القسري ضمن سلسلة معقدة من الإجراءات البيروقراطية كسياسة ممنهجة وظّف النظام لأجلها العديد من الأجهزة الأمنية والمؤسسات الرسمية والقضائية المتواطئة في تزوير الحقيقة وتغطية آثار الجريمة، وإحباط أي تحقيق في ادعاءات الضحايا أو الكشف عن مصير المختفين قسرًا”.

ويوضح البخث بعناية، عملية إعداد إضبارة الوفاة الخاصة بالمعتقلين، ويعرض الأدوار والمسؤوليات التي تتقاسمها “مؤسسات الدولة” في إعداد الملفات والأوراق اللازمة لتوفية المعتقل وإبلاغ أمانات السجل المدني، وهيئة أركان الجيش، والقوات المسلحة بحوادث الوفاة.

وفي فقرته الأخيرة يشرح الفرق في المعاملة التي يقدمها مستشفى “تشرين” للمقربين من السلطة وعائلاتهم، والتي تجعله مكانًا للرعاية والعلاج وفي الوقت ذاته مكانًا لتصفية المعتقلين المعارضين وإخفائهم.

الشعب والأقسام المسؤولة عن التعامل مع المعتقلين ودور كل منها

يوضح البحث وجود 36 شعبة طبية في مستشفى “تشرين” العسكري تغطي مختلف الاختصاصات، لكن المعتقل المريض نادرًا ما يعرض على إحدى هذه الشعب، ويقتصر حضوره في المستشفى على الوصول إلى نظارة الشرطة العسكرية والعرض على قسم الإسعاف، وفي حالات نادرة بعد عام 2018 أحال هذا القسم بعض المعتقلين المرضى إلى الشعب المتخصصة للمعاينة.

وفي الغالب، لا تتعامل الشعب مع المعتقلين بنفس الطريقة أو تقدم لهم الرعاية الطبية المطلوبة دائمًا وفق العديد من الشهادات التي وثقتها الرابطة من الناجين.

وركز البخث على الأقسام المسؤولة عن التعامل مع المعتقلين وجثث المتوفين منهم بشكل رئيسي وهي شعبة الإسعاف قسم الإسعاف “البديل” بعد 2010، وشعبة الطبابة الشرعية، ورحبة النقل.

استباحة الناجيين

ويشهد قسم الإسعاف البديل استباحة للمريض الناجي من النظارة، وأجمع الشهود الذين التقتهم الرابطة على أن الكادر الطبي المسموح له بدخول هذا المكان محدد بدقة من الموالين للنظام، ويمكن القول إنهم بأغلبيتهم من الطائفة العلوية، ويجري اختيار الممرضين من قبل رئيس التمريض بالتنسيق مع ضابط الأمن ومدير المستشفى، ولا يخضعون إلى محاسبة عند التعامل مع المرضى المعتقلين وغالبًا ما يمارسون في حقهم كل أنواع إساءة المعاملة بما فيها الضرب الجسدي أمام الضباط والمسؤولين.

ويرجح البحث إنشاء هذا القسم لعزل المعتقلين بشكل كامل عن أي شخص وحرمانهم من أي فرصة للتواصل مع العالم الخارجي أو التعرف على أحدهم عن أي طريق كان، وهذا ما منح الكادر الطبي في قسم الإسعاف “البديل” وعناصر مفرزة الشرطة العسكرية الحرية في ممارسة عمليات التعذيب واستباحة المرضى المعتقلين.

إضفاء الشرعية على الجرائم

أما شعبة الطبابة الشرعية فترسل الشرطة العسكرية ضابطًا طبيبًا شرعيًا من ملاكها إليه ويتركز عمله على إعداد ضبط بحادثة الوفاة وتحديد السبب وتشخيص الأعراض، ووصف المتوفى، ووصف أسباب الوفاة بالتشاور والاعتماد على تقرير وتشخيص الطبيب الشرعي في مستشفى “تشرين” العسكري.

وتتواصل الشرطة العسكرية مـع القضاء العسكري لإبلاغ قاضي الفرد العسكري عن حادثة الوفاة، ثم يجتمع الطبيب الشرعي التابع للشرطة العسكرية ومحقق من الشرطة العسكرية وقـاضي الفرد العسكري في مستشفى “تشرين” لتسجيل الضبوط اللازمة كل على حدة وإعداد اضبارة وفاة للمعتقل.

ويعد البحث خطوة أساسية على جميع المسارات السياسية والحقوقية وعلى مسار المؤسسة الجديدة لاستجلاء وكشف مصير المفقودين ويساعد في فهم آلية الإخفاء السري التي تحدث في سوريا، بحسب ما أفاد به دياب سرية لعنب بلدي.

بالإضافة لدوره في تحديد أماكن دفن المعتقلين الذين سقطوا ضحايا للتعذيب، ويشرح الآليات التي اتبعتها الدولة لإخفائهم ويقدم أدلة على أماكن وجود هذه الملفات ومن يحتفظ بها.

وطالب البحث المجتمع الدولي بفرض عقوبات على إدارة الشرطة العسكرية بوصفها أحد الأطراف الرئيسية الضالعة بجرائم التصفية والإخفاء القسري، ووضع الأطباء التالية أسماؤهم على قوائم العقوبات الأوروبية والأمريكية مثل مدير إدارة الخدمات الطبية في الجيش السوري، الطبيب عمار سليمان، ورئيس أطباء مستشفى تشرين العسكري اللواء الطبيب، مفيد درويش، ورئيس شعبة الطب، العميد الطبيب أكرم الشعار.

ويعتبر البحث دليلًا قويًا وشبه حاسم في هذا الشأن، ومن المتوقع وجود استجابة لفرض عقوبات على الأشخاص المشاركين في هذه الانتهاكات بحسب ما قاله سرية لعنب بلدي.

وبحسب “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” قتل ما لايقل عن 15 ألف معتقلًا تحت التعذيب منذ آذار 2011 حتى حزيران 2023 بينهم 198 طفلًا و 113 امرأة وقرابة 98% منهم كانت على يد قوات النظام.

ولا يزال نحو 13 ألف معتقل في سجون النظام السوري، منذ آذار 2011 حتى آب 2023 بينهم ثلاثة آلاف و 693 طفلًا.

وقرابة 112 ألف مختفٍ قسريًا، ونحو 85% منهم لدى قوات النظام السوري، وفق إحصائية “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة