نابليون الأمريكي

tag icon ع ع ع

إبراهيم العلوش

يتجلى الاستعراض الأمريكي في تصوير مشاهد فيلم “نابليون” الذي أنتجته هوليوود قبل أسابيع، وعلى أرض الواقع يتجلى الاستعراض مع حاملات الطائرات الأمريكية التي تحمي المشاهد الأسطورية في الترحيل والتنكيل بسكان غزة الذي تقوم بها إسرائيل، وقد وصفها مسؤول في الأمم المتحدة بالمشاهد التي تشبه يوم القيامة!

يُعرض في صالات السينما عبر العالم فيلم “نابليون” من إخراج البريطاني ريدلي سكوت، وسط سيل من الآراء المعجبة والمعارضة لوجهة نظر المخرج العالمي، الذي بلغ 86 سنة من العمر ولا يزال قادرًا على إدهاش مشاهديه بقدرته على تحريك الجموع البشرية ببراعة سينمائية مدهشة، رغم أنه لم يستطع الفوز بجائزة “أوسكار” حتى اليوم وبعد إخراجه أفلامًا كبيرة مثل “المصارع”، و”روبن هود”، و”مملكة السماء”، و”المريخي”.

يبدأ فيلم “نابليون” بمشهد الملكة ماري أنطوانيت وهي تتحدى رجال الثورة الفرنسية بعناد، غير آبهة برمي الناس لها بالقاذورات، ولم ترتعب وهم يعدّون رأسها للقطع تحت المقصلة، علمًا أن نابليون تزوج امرأة من نفس سلالة النبلاء، هي الأرملة جوزفين، التي قالت له في الفيلم: أنت لست شيئًا من دوني، ومن دون أمك!

لا يكترث نابليون، الضابط الشاب، بمقتل الملكة وهو يشاهدها في الفيلم، وهو الشاب الذي كان يحلم بفصل جزيرته كورسيكا عن فرنسا، لكنه أصبح فيما بعد أحد أشهر قادة فرنسا التاريخيين.

ينتقل الفيلم إلى انتصاره الأول في معركة طولون، بالإضافة إلى حملته لانتزاع مصر من أيدي المماليك. ومن الحِكم التي يوردها نابليون بونابرت (1769-1821) إلى خليفته في حملة مصر، وصيته للجنرال كليبر بأن يحترم المصريين ويحافظ على كرامتهم وبيوتهم ويحترم دينهم إن أراد حكمهم بشكل دائم.

من المعارك المدهشة في الفيلم معركة نابليون بالنمسا في اوسترلتز 1805، وهو يستدرج جموع الجيش النمساوي إلى بحيرة متجمدة ويسلّط القصف المدفعي على الجليد الذي يتكسر تحت الجيش مبتلعًا الجنود النمساويين بلا أمل للنجاة.

تتكرر المشاهد الجنسية الرديئة في الفيلم بين نابليون وجوزفين، وتشبه المشاهد التي تجري في دور الدعارة التي ترافق الجيوش، وهي خالية من الحب ومن العلاقة الإنسانية الحميمية، وهذه تضاف إلى سلسلة الإهانات التي كالتها جوزفين له عبر ساعتين ونصف، هي مدة عرض الفيلم، حتى إن بعض النقاد تساءلوا لماذا لم يُسمَّ الفيلم باسم نابليون وجوزفين بدلًا من نابليون.

الفرنسيون غاضبون من الفيلم، وشبهوه بفيلم باربي أمريكي وهو يتناول بسطحية شخصية نابليون، الذي صنع أوروبا الحديثة والمتحررة من تسلط الملوك، وصنع مجد فرنسا وأسس الدولة الفرنسية ببناها الإدارية الرسمية، وهو الذي أوجد نظام البكالوريا الذي انتشر عبر العالم. وللتذكير، لا يزال يصدر بمعدل كل أسبوع كتاب عن نابليون منذ وفاته إلى اليوم، وقد وصل عدد الكتب المؤلفة عنه إلى 10500 كتاب حول العالم.

علماء الآثار المصرية غضبوا أيضًا وهم يرون الأهرامات يتم قصفها من مدفعية نابليون تعبيرًا عن هيمنته على بلاد الفراعنة، التي انتقلت من المماليك إلى الفرنسيين في دوامة من التبعية التي لا تنتهي في عالمنا العربي، ورفض الفرنسيون صحة هذا القصف كما رفضوا من قبل أن يكون نابليون قد قصف وجه أبو الهول وشوّهه.

تبدأ نهاية نابليون مع خسارته معركة واترلو 1815 التي قادها الإنجليز بالتحالف مع الهولنديين والبروسيين، ومشاهد المعركة شديدة البراعة، فالكتل البشرية التي يديرها المخرج تتحرك بانتظام وبدقة أشبه برقصة على مسرح للباليه لتصنع نهاية أحد أبطال فرنسا الذي انتهى منفيًا في جزيرة سانت هيلانة.

مشهد الذبابة التي تموت في الكأس تعبير شديد القسوة من المخرج عن نهاية نابليون في منفاه بجزيرة سانت هيلانة، ولعل الإنجليز لا يزالون يكررون إهانة نابليون على يد المخرج البريطاني السير ريدلي سكوت بعد أن مرّغوا جبينه في واترلوا على يد القائد البريطاني دوق ويلنغتون، ليموت وحيدًا وهو يكرر “فرنسا، الجيش، جوزفين”.

وهنا لا بد من أن نسأل عن قادة المنطقة العربية وهم يتوفّون، ماذا يقولون في لحظاتهم الأخيرة غير “المخابرات والرقابة والتعذيب”. ولا نعرف ماذا قال حافظ الأسد على فراش الموت غير “التقارير، الشعارات، بشار”، وكان من الأجدر دفنه في أحد فروع المخابرات العسكرية أو المخابرات الجوية أو في فرع فلسطين، على اعتبار أن هذه المراكز كانت شغفه الوحيد في الحياة.

ينتهي الفيلم بتعداد ضحايا نابليون وعدد البشر الذين تسبب بقتلهم، وهم ثلاثة ملايين، بمن فيهم جيشه الذي زحف به إلى موسكو ولم يعد منه إلا 40 ألفًا من أصل 600 ألف جندي.

الفيلم عمل فني كبير يركّز على المآسي التي تسبب بها نابليون والعقد الشخصية التي تحكمت بحياته، ويعيد منتجو الفيلم فرنسا إلى ذكرى واترلو المأساوية في تاريخها، وقد تم نسيان نابليون ولم تصل أخبار وفاته في 5 من أيار 1821 إلى فرنسا إلا بعد شهرين، حسب برنامج “بودكاست” نشره راديو فرنسا الثقافي.

كما غضبت النخب الثقافية الفرنسية في الصحافة و”الميديا”، فلم يكن في صالة العرض الفرنسية التي حضرنا فيها الفيلم بالأسبوع الأول من إطلاقه أكثر من نصف المقاعد مشغولًا، وهذا تعبير عن الغضب الشعبي الفرنسي من طريقة الفهم الأمريكي والبريطاني لشخصية نابليون الذي يجتر هزيمة واترلو بشكل شبه مقصود.

ولم تكن الاستعراضات المشهدية في تحريك الجيوش كافية لتغطية قصور الرؤية، إذ لم تكن أكثر من تعبير شكلي عن القوة، وهو ما يشبه تحريك الجموع البشرية البائسة في قطاع غزة تحت القذائف الإسرائيلية والأمريكية، ورغم أن هذا التحريك أكثر إثارة من مشاهد هوليوود الاستعراضية في الفيلم، فإنه أكثر بشاعة وأكبر انتهاك لحقوق الإنسان تتورط فيه جيوش وأسلحة أمريكا وإسرائيل.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة