tag icon ع ع ع

حسن إبراهيم | محمد فنصة | براءة خطاب

يطل عام 2024 على السوريين بملامح مجاعة مقبلة، باعثًا فيهم مخاوف بسنوات أكثر بؤسًا وقهرًا، بعد إعلان برنامج الأغذية العالمي (WFP) انتهاء برنامج مساعداته الغذائية العامة بجميع أنحاء سوريا مع نهاية عام 2023، إثر أزمة تمويل أدت إلى تخفيض برنامج المساعدات.

أزمة غذاء تتفاقم وتعمّق جراحًا لم تندمل منذ 12 عامًا في سوريا، فمنذ 2011، بدأ عدد الأشخاص الذين يعانون الجوع بالارتفاع تدريجيًا، وباتت سوريا واحدة من بين الدول الست الأدنى في مستويات الأمن الغذائي بالعالم، وبلغ عدد الأشخاص الذين يعانون انعدام الأمن الغذائي 12.1 مليون شخص (أكثر من نصف السكان)، و2.9 مليون يعانون انعدام الأمن الغذائي الشديد.

وتوالت الأزمات المعيشية والاقتصادية في سوريا بمختلف مناطق السيطرة، وتقهقرت قطاعات استراتيجية وحيوية، مع قلة في فرص العمل وعدم كفاية الرواتب الشهرية سوى لأيام، وتدهورت قيمة العملة السورية، كما انخفضت العملة التركية المتداولة شمالي سوريا مقارنة بالعملات الأجنبية.

وقوّض النزاع العسكري الأمن الغذائي بشكل مباشر، وأثرت الهجمات على المحاصيل والأراضي والمزارعين وسلاسل الإمدادات الغذائية والأسواق والبنية التحتية الرئيسة، وزاد في التهديدات تراجع دور الوكالات.

كما سجلت سوريا خلال 2022، 171 ألف حالة نزوح داخلي، ليصل العدد إلى ستة ملايين و865 ألف نازح داخليًا.

تسلط عنب بلدي في هذا الملف الضوء على واقع السوريين المعيشي ومدى تعويلهم على سلة الغذاء، وتناقش مع جهات مسؤولة ومنظمات ومديري مخيمات وباحثين، أسباب تقليص المساعدات، وأثره على مستقبل الفرد في سوريا، والحلول المتاحة لتجنب الأسوأ.

نقص تمويل يقلّص المساعدات

أعلن برنامج الأغذية العالمي عن انتهاء برنامج مساعداته الغذائية العامة بجميع أنحاء سوريا في كانون الثاني المقبل، بسبب نقص التمويل، وأنه سيواصل دعم الأسر المتضررة من حالات الطوارئ والكوارث الطبيعية من خلال “تدخلات طارئة أصغر وموجهة أكثر”، دون تحديد طبيعة هذه التدخلات.

وذكر أن برنامج مساعدة الأطفال دون سن الخامسة والأمهات الحوامل والمرضعات من خلال برامج التغذية لن يتوقف، وسيواصل تقديم برنامجه الغذائي في المدارس ومراكز التعليم ضمن برنامج الوجبات المدرسية، وفق بيان أصدره في 4 من كانون الأول الحالي، وصلت إلى عنب بلدي نسخة منه.

ومن البرامج التي سيستمر “WFP” في دعمها، برنامج “دعم سبل العيش” لفئة الأسر الزراعية المدرجة في البرنامج، بالإضافة إلى تدخلاته الداعمة للنظم الغذائية المحلية، مثل إعادة تأهيل أنظمة الري والمخابز.

وأقر “WFP” أن الأمن الغذائي في سوريا أصبح أدنى من أي وقت مضى، ورغم الانخفاض التدريجي في حجم الحصص الغذائية وقيمة القسائم الإلكترونية، لا يستطيع البرنامج مواصلة تقديم الغذاء بالمستوى الحالي بسبب أزمة تمويل “تاريخية خانقة ستكون لها عواقب لا توصف على ملايين الأشخاص”، وفق البيان.

بحسب الموقع الرسمي للبرنامج الأممي، فإنه يقدم شهريًا مساعدات غذائية إلى 5.6 مليون شخص في سوريا (حصص غذائية أو قسائم نقدية لشراء الطعام للعائلات)، كما يوفر لأطفال المدارس في جميع أنحاء البلاد وجبات غذائية خفيفة، ويعمل على الوقاية والعلاج من سوء التغذية للأمهات والأطفال،

لكن في 13 من حزيران الماضي، أعلن برنامج الأغذية عن تخفيض مساعداته الغذائية لحوالي 2.5 مليون شخص، بعد أن كان يقدمها لحوالي 5.5 مليون شخص يعتمدون على المساعدات في سوريا، مرجعًا أسباب ذلك لأزمة نقص التمويل.

وبرر البيان نقص الدعم من قبل الجهات المانحة بمستوى الاحتياجات الإنسانية الكبير حول العالم، والتحديات الاقتصادية العالمية، والتشديد المالي من جانب الجهات المانحة الرئيسة، ما أدى إلى عدم تقديم نفس المستوى من الدعم لسوريا.

وأشار البرنامج إلى أن نقص التمويل الدولي سيجبر برنامج الأغذية على التخفيض أو التخطيط للتخفيض في حجم ونطاق المساعدات لدى نحو 50% من عمليات البرنامج القطرية.

جمعية الأيادي البيضاء توزيع السلل الغذائية المقدمة من قبل برنامج "الغذاء العالمي"- 5 أيلول 2023 (WFP)

جمعية الأيادي البيضاء توزيع السلل الغذائية المقدمة من قبل برنامج “الغذاء العالمي”- 5 أيلول 2023 (WFP)

ينتظرون سلة الإغاثة

تعتمد نجاح (60 عامًا) على سلة المساعدات بشكل كبير، وقالت السيدة التي تقيم في حي طريق السد بمدينة درعا جنوبي سوريا، إن الإغاثة التي تصلها عبر “الهلال الأحمر السوري” تساعد في إعالة عائلتها المؤلفة من ثلاثة أطفال (هم أبناء أخيها المتوفى، وطفل وأختان من ذوي الإعاقة إحداهما فاقدة للبصر).

وأوضحت السيدة لعنب بلدي، أنها تمتلك دفتري عائلة أحدهما لعائلتها والآخر باسم أخيها، وتحصل على سلتين من المساعدة كل شهرين، وتلجأ لبيع إحداهما بقيمة 200 ألف ليرة لسد المتطلبات، مثل الأدوية والمستلزمات المدرسية لأطفال، وتستعمل محتويات السلة الأخرى.

ويحصل محمود العزو (37 عامًا)، وهو مهجر من جنوبي إدلب ويقيم حاليًا في مخيم “أحباب الرحمن” بمدينة اعزاز شمالي حلب، على قسيمة شهرية بقيمة 60 دولارًا أمريكيًا لشراء مواد غذائية، وقال لعنب بلدي، إن توقفها يزيد الأعباء على عائلته المكوّنة من خمسة أفراد، وفقدانها يترك فجوة يصعب سدها.

ولا تختلف حال محمود عن زكي العلي (54 عامًا)، وهو معيل لتسعة أشخاص، ويقيم في مخيم “كوبرا” بقرية سجو قرب اعزاز، فعائلته تحصل كل شهرين على سلة إغاثية من منظمة “شفق”.

وقال زكي لعنب بلدي، إن عائلته تعتمد على السلّة لأنها تسد 50% من احتياجات العائلة الغذائية، لاحتوائها على الزيت والأرز والسكر والطحين، وخيار شراء هذه المواد مكلف جدًا، فهو يعمل بمهن غير ثابتة بأجرة يومية تتراوح بين 70 و90 ليرة تركية.

أما مدير مخيم “الأزرق” بريف حلب الشمالي، ماجد العموري، فتكفيه السلة المقدمة لعائلته مدة 15 يومًا، مع الاعتماد على التقنين باستهلاكها، وتصله كل شهرين، في حين يعتمد بقية الأيام على الاستدانة.

وقال ماجد لعنب بلدي، إن انقطاع المساعدات أو انخفاضها يضاعف من معاناة السكان، وخاصة في ظل وجود أطفال وأرباب عائلات ذوي إعاقة أيضًا.

وأوضح أن انقطاع الإغاثة يتسبب في ارتفاع أسعار السلع بالأسواق، فمع وجود الإغاثة يمكن شراء كيلو الأرز من 15 إلى 20 ليرة تركية، وفي حال انقطاعها سترتفع الأسعار.

من جانبه، مدير مخيم “التح” الواقع جنوب مدينة معرة مصرين شمالي إدلب، عبد السلام اليوسف، قال إن خبر تخفيض المساعدات جاء كالصدمة على القاطنين، مضيفًا أن 300 عائلة تقطن المخيم (ما يقارب 1750 شخصًا) تعتمد بشكل كامل على المساعدات في جميع أشكالها، سواء كانت غذائية أو طبية أو خدمية.

ولا تختلف الأوضاع في مخيم “التح” عن مخيمات شمالي سوريا يبلغ عددها بين 1400 مخيم (وفق تقارير أممية) و1800 مخيم وفق جهات محلية، ومخيمات نشأت حديثًا بعد الزلزال الذي ضرب المنطقة في شباط الماضي، وبعضها نتيجة تصعيد قوات النظام وروسيا في تشرين الأول الماضي.

أرقام تعكس قسوة الحياة

يصارع المواطن السوري وحيدًا في مواجهة موجات ارتفاع الأسعار وغياب القدرة على تأمين حاجيات عائلته الأساسية، وسط تدهور الليرة أمام العملات الأجنبية، مع غياب أي حلول تنتشله من أزماته المتلاحقة، وتنعكس زيادة الراتب وبالًا عليه، لما يتبعها من مضاعفة أسعار السلع.

ويعيش ما يقارب 90% من السوريين تحت خط الفقر، وهناك أكثر من 15 مليون شخص بحاجة إلى مساعدات إنسانية، وفق تقرير نشرته اللجنة الدولية للصليب الأحمر، في حزيران الماضي.

في مؤشر معدل فقر العاملين، حلّت سوريا في المركز الـ21 من أصل 117 بلدًا، وفي معدل إنتاجية العمل جاءت سوريا بالمركز الـ155 من إجمالي 185 بلدًا.

ويبلغ متوسط تكاليف المعيشة في مناطق سيطرة النظام أكثر من 10.3 مليون ليرة سورية، والحد الأدنى لتكلفة المعيشة 6.5 مليون ليرة، بينما لا يتجاوز الحد الأدنى للرواتب الحكومية 186 ألف ليرة.

ويعادل الحد الأدنى للرواتب بعد زيادة 100% خلال آب الماضي، نحو 13.3 دولار أمريكي، وسجل سعر الدولار الأمريكي 14000 ليرة سورية، حسب موقع الليرة اليوم المتخصص بمتابعة أسعار الذهب والعملات الأجنبية.

إلى الشمال السوري، حيث تسيطر المعارضة، يعيش مليونا شخص في المخيمات من إجمالي 2.9 مليوني نازح، وذلك في منطقة يقطنها 4.5 مليون شخص، ويعاني فيها 3.7 مليون شخص انعدام الأمن الغذائي، وفق بيانات الأمم المتحدة الأحدث.

ووصل حد الفقر المعترف به إلى 7318 ليرة تركية، وحد الفقر المدقع إلى 5981 ليرة تركية، ووصلت نسبة البطالة إلى 88.74% بشكل وسطي (مع اعتبار أعمال المياومة ضمن الفئات المذكورة)، بحسب فريق “منسقو استجابة سوريا” العامل في المنطقة.

وتتراوح الرواتب الحكومية في مناطق سيطرة حكومة “الإنقاذ” بإدلب بين 80 و110 دولارات (يعادل الدولار 29 ليرة تركية)، مع وجود موظفين في قطاعي التعليم والصحة دون رواتب ثابتة، يتلقون أجورهم بدعم من المنظمات الإنسانية.

ويُقدّر مكتب تنسيق الأمم المتحدة أن ما يقارب من ربع المعلمين في إدلب لا يتلقون رواتب، ويبلغ عددهم 2380 معلمًا من أصل عشرة آلاف و853 معلمًا.

في مناطق سيطرة “الحكومة المؤقتة”، يبلغ أدنى أجر للموظفين في القطاع العام بريفي حلب الشمالي والشرقي 1140 ليرة تركية، ويُمنح للمؤذنين العزاب وعمال النظافة العزاب، بينما يتلقى المتزوجون منهم راتبًا بقيمة 1235 ليرة تركية، في حين وصل راتب المعلمين إلى 1750 ليرة تركية للعزاب و1925 ليرة للمتزوجين.

بينما في شمال شرقي سوريا، حيث تسيطر “الإدارة الذاتية”، ارتفعت معظم أسعار السلع الغذائية كبقية مناطق سوريا، حتى المحروقات المتوفرة بالمنطقة بكثرة، وذلك بعد أن رفعت “الإدارة” الرواتب في آب الماضي، وبلغ الحد الأدنى للراتب نحو مليون ليرة سورية (74 دولارًا أمريكيًا).

بداية كل شتاء تتفاقم معاناة القاطنين في مخيمات النزوح شمالي سوريا - تشرين الأول 2023 (الدفاع المدني السوري)

بداية كل شتاء تتفاقم معاناة القاطنين في مخيمات النزوح شمالي سوريا – تشرين الأول 2023 (الدفاع المدني السوري)

الأمن الغذائي وأبعاده

الأمن الغذائي: وضع يتحقق عندما يتمتع جميع الناس، في جميع الأوقات، بإمكانية الحصول على أغذية كافية وسليمة ومغذية تلبي احتياجاتهم الغذائية من أجل حياة نشطة وصحية، وذلك وفقًا لما خلص إليه مؤتمر القمة العالمي للأغذية الذي عُقد عام 1996.

للأمن الغذائي أربعة أبعاد رئيسة:

  • التوفر المادي للغذاء: يتناول “جانب العرض” من الأمن الغذائي، ويُحدد حسب مستوى إنتاج المواد الغذائية، ومستويات المخزون، وصافي التجارة فيها.
  • الحصول المادي والاقتصادي على المواد الغذائية: إن العرض الكافي من المواد الغذائية على المستوى الوطني أو الدولي لا يضمن في حد ذاته تحقيق الأمن الغذائي على مستوى الأسر.
  • الاستفادة من المواد الغذائية: الطريقة التي يحقق بها الجسم أقصى استفادة من العناصر الغذائية المختلفة التي تحتوي عليها المواد الغذائية.

ويشمل ذلك تناول الأفراد ما يكفي من العناصر الغذائية التي تمدهم بالطاقة والمغذيات نتيجة للرعاية الجيدة وممارسات التغذية، وطريقة إعداد الطعام، وتنوع النظام الغذائي، وتوزيع الطعام داخل الأسرة.

استقرار الأبعاد الثلاثة الأخرى بمرور الوقت: حتى لو كانت كمية الطعام التي يتناولها الشخص كافية اليوم، فلا يزال يُنظر إليه على أنه يعاني انعدام الأمن الغذائي إذا لم تكن لديه القدرة الكافية على الحصول على المواد الغذائية بصفة دورية، ما يعرضه لخطر تدهور حالته الغذائية.

وربما يكون للأحوال المناخية السيئة، أو عدم الاستقرار السياسي، أو العوامل الاقتصادية (البطالة، وأسعار المواد الغذائية الآخذة في الارتفاع) تأثير على حالة الأمن الغذائي.

ومن أجل تحقيق أهداف الأمن الغذائي، يجب تحقيق جميع الأبعاد الأربعة في آن واحد.

تراجع يتزامن مع الأزمات الدولية

لم يكن قرار برنامج الأغذية العالمي مفاجئًا، بل كان نهاية متوقعة لسلسلة من التخفيضات في الحصة الغذائية التي يتسلمها السوريون.

وكانت بداية النهاية منذ عام 2019، عندما بدأت الجائحة المرضية “كوفيد- 19” (كورونا) بالانتشار، وفرضت البلدان، ومنها الممولة للبرنامج الأممي، حظرًا صحيًا وضيقت نفقاتها لمواجهة الأزمة الصحية التي تسببت بخسائر اقتصادية.

وانعكس تضييق النفقات مطلع عام 2020 على كمية المساعدات الغذائية الواصلة للسوريين، ليستمر التخفيض في آذار من العام نفسه داخل محتويات السلة الغذائية، وتصبح قيمة السعرات الحرارية اليومية للسلة لعائلة مكونة من خمسة أفراد خلال شهر 1855 سعرة حرارية.

في عام 2021، استمر تأثير الجائحة على العالم، مع ظهور متحورات جديدة على الفيروس الممرض مثل متحور “أوميكرون” و”دلتا” ليأتي إعلان “الأغذية العالمي” تخفيض محتويات السلة الغذائية في أيلول من ذاك العام لتصل إلى 1341 سعرة حرارية.

وتعد الحرب الروسية على أوكرانيا وتأثيرها الاقتصادي العالمي على سلاسل التوريد من أهم الأحداث الدولية عام 2022، وتقلصت حينها أيضًا محتويات السلة في أيار إلى 1170 سعرة حرارية، وانخفضت قيمة القسيمة الشرائية لتأمين الغذاء من 60 دولارًا إلى 40 دولارًا مطلع العام الحالي.

وبالرغم من ازدياد حجم الاحتياجات الإنسانية بشكل سنوي، وخصوصًا بعد كارثة الزلزال في شباط الماضي، انخفضت قيمة السعرات الحرارية للسلة الغذائية في نيسان الماضي لتصل إلى 991 سعرة حرارية.

في كل مرة يجري تخفيض محتويات السلة، يكون التبرير بأن أسعار محتوياتها ارتفعت مع وجود عجز بالتمويل، ليكون التخفيض إجراء وقائيًا من تقليص أعداد المستفيدين، لكن في 13 من حزيران الماضي، أعلن البرنامج الأممي تخفيض مساعداته الغذائية لحوالي 2.5 مليون شخص، بعد أن كان يقدمها لحوالي 5.5 مليون شخص يعتمدون على المساعدات في سوريا، مرجعًا أسباب ذلك لأزمة نقص التمويل.

ويتزامن الإعلان الأحدث لبرنامج الأغذية عن وقف مساعداته العامة في سوريا مع توجه الأنظار الدولية وتكثيف المجتمع الإنساني الدولي مساعدة أهالي قطاع غزة بعد التصعيد الإسرائيلي على القطاع منذ 7 من تشرين الأول الماضي.

وللاستفسار عن أسباب إيقاف الدعم عن سوريا، تواصلت عنب بلدي مع برنامج الأغذية العالمي، إذ أوضح متحدث باسمه عبر البريد الإلكتروني أن البرنامج احتاج إلى نحو 1.5 مليار دولار أمريكي للوصول إلى تسعة ملايين شخص يعانون انعدام الأمن الغذائي بالمساعدات الغذائية في سوريا خلال عام 2023.

وحتى لحظة إعداد الملف، لم تتلقَّ هذه الخطة سوى 35% من التمويل المطلوب، ما أجبر البرنامج على الوصول فقط إلى 5.5 مليون شخص حتى تموز الماضي، ثم 3.2 مليون شخص حتى نهاية العام، وفق المتحدث باسم البرنامج.

وأفاد المتحدث أن مشكلة التمويل عالمية ويواجهها البرنامج في جميع أنحاء العالم، ففي عام 2023، وبينما واجه 333 مليون شخص الجوع الحاد، فإن الرياح الاقتصادية العالمية المعاكسة والتشديد المالي طويل الأجل أدت إلى تخفيض العديد من الحكومات والشركاء الدوليين الآخرين مستويات الدعم، كما ارتفعت تكاليف تشغيل البرنامج مع ارتفاع أسعار السلع الأساسية العالمية.

وبالأرقام، بلغت الاحتياجات التشغيلية للبرنامج الأممي الغذائي عام 2023، 23.5 مليار دولار، في حين يبلغ التمويل المتوقع للعام الحالي حوالي عشرة مليارات دولار، ما يترك فجوة تمويلية “تاريخية” تبلغ حوالي 60%.

وردًا على سؤال حول إمكانية التراجع عن قرار وقف الدعم الإنساني في حال ورود التمويل، أجاب المتحدث أن أنشطة البرنامج بطبيعتها قابلة للتطوير، ما يعني أنه يمكن تخفيضها أو زيادتها حسب الاحتياجات والموارد المتاحة.

الطبيب السوري والناشط في المجال الإنساني والعامل السابق في مجال المساعدات والمناصرة محمد كتوب، قال لعنب بلدي، إن نظام المساعدات فاقم اعتمادية المجتمع على المساعدات، وبدل عمل نظام المساعدات على تعافي وتمكين المجتمعات المتضررة، تركها معتمدة كليًا على المساعدات.

توزيع سلل غذائية من برنامج الأغذية العالمي عبر منظمة "شفق" شمالي سوريا - 28 من أيلول 2022 (شفق)

توزيع سلل غذائية من برنامج الأغذية العالمي عبر منظمة “شفق” شمالي سوريا – 28 من أيلول 2022 (شفق)

 النظام يتهم البرنامج بـ”التسييس”

بعد ثلاثة أيام من بيان البرنامج الأممي، اتهمت حكومة النظام السوري برنامج الأغذية بـ”تسييس” برامج المساعدات الإنسانية التي يقدمها للسوريين، لأنه لم “ينسق مسبقًا” معها قبل إعلانه وقف برنامج المساعدات الغذائية الأساسي.

الاتهام جاء بعد لقاء رئيس اللجنة العليا للإغاثة وزير الإدارة المحلية والبيئة بحكومة النظام، حسين مخلوف، مع الممثل والمدير القطري لبرنامج الأغذية العالمي في سوريا، كينيث كروسلي، في 7 من كانون الأول الحالي.

وقال مخلوف، “إن سوريا تبدي عدم ارتياحها لهذا الإعلان دون تنسيق مسبق، بما يظهر انحرافًا لمسار البرنامج باتجاه التسييس لبرامج المساعدات الإنسانية المقدمة للشعب السوري، وانضمامه بذلك للأطراف التي تعمل على ممارسة الضغط على الشعب السوري”.

وأبدى مخلوف تحفظه على إيقاف المساعدات الغذائية عن غالبية المستحقين من السوريين في ظل زيادة أعداد المحتاجين للمساعدات، بحسب ما نقلته الوكالة السورية الرسمية للأنباء (سانا).

وحمّل مخلوف مسؤولية “الأوضاع الصعبة” التي يمر بها السوريون لـ”آثار الحرب الإرهابية والحصار الاقتصادي”، متهمًا الولايات المتحدة وتركيا و”المجموعات الإرهابية والانفصالية” بـ”سرقة النفط والقمح”، متجاهلًا أثر السياسات الحكومية الاقتصادية على أوضاع البلاد.

من جهته، وعد كروسلي بإيصال الرسالة إلى إدارة البرنامج، وبذل الجهود لاستمرار تقديم المساعدات الإنسانية للسوريين.

لم تعلق “الإدارة الذاتية” لشمال شرقي سوريا على قرار انتهاء برنامج المساعدات، في حين تواصلت عنب بلدي مع حكومة “الإنقاذ” العاملة في إدلب، ومع “الحكومة السورية المؤقتة” للحصول على توضيحات عن أثر وقف برنامج المساعدات على السكان في مناطق سيطرتهما، وعن الحلول أو الخطط البديلة أو المطروحة أو التي يمكن أن تنفذها في حال توقف برنامج المساعدات، لكنها لم تتلقَّ ردًا حتى لحظة نشر هذا الملف.

تخفيض الدعم عن السوريين في دول الجوار

سبق قرار وقف الدعم عن سوريا، قرار آخر بتخفيض المساعدات عن السوريين في لبنان، إذ أفادت المتحدثة باسم مفوضية اللاجئين في لبنان، ليزا أبو خالد، في 3 من تشرين الثاني الماضي، أن المنظمة الأممية ستخفض عدد عائلات اللاجئين السوريين في لبنان، ممن يتلقون مساعدات نقدية، إلى نحو الثلث العام المقبل، وذلك في مواجهة أزمة التمويل المتزايدة.

وقالت ليزا أبو خالد، إنه “بسبب التخفيضات الكبيرة في التمويل”، ستقدم المفوضية وبرنامج الأغذية العالمي مساعدات نقدية شهرية لعدد أقل بـ88 ألف عائلة في العام 2024 مقارنة بالعام 2023.

وأضافت أن قرابة 190 ألف عائلة ستستمر في تلقي المساعدة، التي تبلغ حدها الأقصى الشهري 125 دولارًا لكل عائلة.

وحول هذا التخفيض قال مركز “جسور” للدراسات، إنه سيؤدي إلى استمرار حركة الهجرة الشرعية وغير الشرعية للاجئين السوريين واتساعها في لبنان نحو أوروبا، في ظل السعي المتزايد للاجئين للخروج من الظروف السيئة والضغوطات التي يتعرضون لها في لبنان.

كما يرى المركز أن التخفيض سيؤدي أيضًا إلى استمرار عودة جزء من اللاجئين إلى سوريا، رغم الظروف الحالية التي قد تعرضهم لما سبق وتكرر من حملات اعتقال وقتل وابتزاز، في عملية تتماشى مع توجهات الحكومة اللبنانية للضغط لإعادة أعداد من الأسر السورية إلى بلادهم عبر التضييق الأمني والقانوني وكذلك الاقتصادي.

أما في الأردن، فأعلن برنامج الأغذية العالمي خلال تموز الماضي تقليص مساعداته الغذائية الشهرية عن 465 ألف لاجئ، واستثناء حوالي 50 ألف شخص آخرين من المساعدة الشهرية ابتداء من آب الماضي، بحجة النقص في التمويل البالغ 41 مليون دولار حتى نهاية 2023.

وفي بيان لاحق، أعلن “WFP” تخفيض الدعم بمقدار الثلث لجميع اللاجئين السوريين في مخيمي “الزعتري” و”الأزرق” البالغ عددهم 119 ألف لاجئ، أيضًا اعتبارًا من آب الماضي، ليحصل اللاجئون على تحويل نقدي قدره 21 دولارًا أمريكيًا للفرد شهريًا، بانخفاض عن المبلغ السابق البالغ 32 دولارًا.

سلة غذائية بشكلها القديم حيث توزع في سوريا- (WFP)

سلة غذائية بشكلها القديم حيث توزع في سوريا- (WFP)

ما الأسباب.. أثر سياسي

خلال الاجتماع الـ19 لمجموعة المانحين الأساسية المعنية بسوريا، في 6 من كانون الأول الحالي، قال رئيس بعثة الاتحاد الأوروبي إلى سوريا، دان ستوينسكو، إنه بالإشارة إلى توقف المساعدات الغذائية عن سوريا، “لا يمكن للمساعدات الإنسانية وحدها أن تحل عدم الاستقرار الذي طال أمده في سوريا”.

وأضاف أن “الطريقة الوحيدة لوقف الارتفاع المستمر في عدد الحالات الإنسانية هي معالجة الأسباب الجذرية للأزمة الحالية”، وأن “ما نحتاج إليه الآن هو تمكين المجتمعات من طرح حلولها الخاصة، والعمل من أجل التغيير”.

الباحث في الاقتصاد السياسي جوزيف ضاهر، قال لعنب بلدي، إن هناك سببين مترابطين لتوقف المساعدات الغذائية عن سوريا، أولهما عدم القدرة على دفع عملية انتقال سياسي في سوريا تسمح بإحراز تقدم سياسي واجتماعي محتمل، وثانيهما أن سوريا حاليًا ليست ذات أولوية للدول المانحة الرئيسة، وهي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.

وأدى الغزو الروسي لأوكرانيا إلى إعادة توجيه المساعدات الخارجية الدولية وفق الأولويات السياسية للمانحين، فيما أشار الباحث في الاقتصاد السياسي، إلى أن رفع “المساعدة الإنمائية الرسمية” مساعداتها من 186 مليارًا إلى 204 مليارات دولار، يعني وجود زيادة كبيرة في المخصصات المتعلقة بمعالجة واستضافة اللاجئين داخل البلدان المانحة، وتوسيع “المساعدة الإنمائية الرسمية” لأوكرانيا بعد الغزو الروسي.

وتعد “المساعدة الإنمائية الرسمية” إحدى لجان منظمة “التعاون الاقتصادي والتنمية”، التي تعمل كمنتدى يضم 31 مانحًا وهيئة مراقبة، وتُعرّف بأنها تدفقات تمويلية بشروط ميسرة لتعزيز التنمية الاقتصادية و”رفاهية” البلدان النامية.

وارتفعت المساعدات الخارجية من المانحين الرسميين في هيئة “المساعدة الإنمائية الرسمية” عام 2022 إلى أعلى مستوى لها عند 204 مليارات دولار أمريكي، مقارنة بـ186 مليار دولار أمريكي في عام 2021، إذ زادت الدول المتقدمة إنفاقها على معالجة واستضافة اللاجئين وعلى المساعدات لأوكرانيا، وفقًا لبيان صادر عن الهيئة في نيسان الماضي.

ومن شأن تخفيض الدعم الغذائي عن السوريين أن يعزز الأزمة الإنسانية في البلاد، ليكون هناك اعتماد أكبر على التحويلات المالية من السوريين في الخارج.

ويعادل إرسال 100 دولار أمريكي شهريًا خمسة أو ستة أضعاف راتب موظف حكومي في سوريا، ومع تراجع المساعدات الإنسانية، واستمرار الأزمة الاقتصادية في سوريا والدول المجاورة، ومن أبرزها الارتفاع المستمر في التضخم، والإجراءات التقشفية التي تتخذها حكومة النظام، يستمر دخل السوريين في الانخفاض، وزيادة تكاليف المعيشة، وفق ضاهر.

كارثة ومجاعة

تكررت عبر السنوات الماضية تحذيرات منظمات إنسانية وجمعيات خيرية ووكالات أممية من تفاقم أزمة الغذاء في سوريا، وسط غياب حلول تمنع أو تحد من الأسوأ.

في حزيران الماضي، طالب المدير الإقليمي لمنطقة الشرق الأدنى والأوسط باللجنة الدولية للصليب الأحمر، فابريزيو كاربوني، المجتمع الدولي بأن يواجه الحقيقة الصعبة التي تؤكد أن الوضع في سوريا لا يحتمل.

وقال إن عدم التحرك سيترك تداعيات خطيرة على جميع المعنيين، وسيعوق أي احتمالات للتوصل إلى تعافٍ مستدام.

وقالت كورين فلايشر، المديرة الإقليمية لبرنامج الأغذية العالمي للشرق الأوسط وشمال إفريقيا وأوروبا الشرقية، إن العديد من السوريين يرددون عبارة “لقد نسينا العالم الآن”، وهو تذكير صارخ بالحاجة إلى بذل المزيد من الجهد.

وأضافت، في آذار الماضي، “نحن بحاجة إلى الأموال لمواصلة توفير الغذاء لملايين العائلات، حتى يتمكن السوريون من تأمين غذائهم من جديد”.

ويرى الباحث في الاقتصاد السياسي جوزيف ضاهر أن قرار تخفيض المساعدات الغذائية سيعزز رغبة السوريين في الهجرة، التي كانت موجودة بالفعل في سوريا ولبنان، خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية والإنسانية التي يعيشها البلدان، إذ لا بديل للهجرة بالنسبة للعديد من السوريين، مع عدم وجود أي احتمال للتحسن الاقتصادي في سوريا على المدى القصير والمتوسط.

مدير منظمة “بنفسج”، الدكتور قتيبة سيد عيسى، قال لعنب بلدي، إن الفقر والمعاناة سيتفاقمان مع إعلان برنامج الأغذية العالمي تخفيض المساعدات، على اعتبار أن “هناك 1800 مخيم في الشمال السوري”.

وأضاف أن الدراسات تبين أن 82% من السوريين يعيشون على الاستدانة، ما يفاقم الوضع بشكل أكبر مع تدني الوضع الصحي والغذائي للسكان.

وأوضح سيد عيسى أن التأثيرات كبيرة سواء على المستفيدين من المساعدات أو على العاملين في صندوق “الغذاء العالمي” مع المنظمات السورية، بالإضافة إلى مئات العمال الذي يعملون في نقل السلال الغذائية، ما يعني أن نقص المساعدات لا يؤثر على المستفيدين منها فقط.

ويرى سيد عيسى أن التأثيرات لن تظهر بشكل مباشر بل تتباين في المستقبل، مؤكدًا أن الانخفاض يؤثر على الوضع الصحي للسكان بسبب عدم وجود سيولة للعلاج.

“من المرعب القول إن 600 ألف طفل شمالي سوريا مصابون بالقزامة بسبب نقص الغذاء والعناية الصحية”.

الدكتور قتيبة سيد عيسى – مدير منظمة “بنفسج”

 

بدوره، مدير مخيم “التح” شمالي إدلب، عبد السلام اليوسف، قال إنه في حال استمر قرار انتهاء عمليات البرنامج، ولم تتدخل أي جهة إنسانية أخرى أو مانحين لاستمرار تدفق المساعدات، ستتحول المخيمات إلى مقابر من شدة الجوع والفقر.

ويحمل انخفاض المساعدات تغييرًا جذريًا لقاطني المخيمات، في ظل حالة الفقر والبطالة، وتتضاعف حالات التسرب المدرسي، لأن بعض الأهالي سيدفعون أبناءهم للعمل، كما ستتضاعف حالات الطلاق والانتحار، بحسب اليوسف.

واعتبر منسق المشاريع الاجتماعية في جمعية “عطاء للإغاثة الإنسانية”، أحمد هاشم، أن تقليص المساعدات مشكلة ستحول وتغير الواقع في الداخل السوري نحو الأسوأ، وتعمق حاجة العائلات شمال غربي سوريا.

وذكر هاشم أن هذه العائلات ستفقد الدخل الرئيس لها، وهي عائلات تشمل الأكثر ضعفًا وحاجة من أرامل وأيتام ومصابي حرب، وأطفال يعانون من نقص الأغذية ونقص الطعام المثالي لهم.

توزيع سلل غذائية من برنامج الأغذية العالمي عبر منظمة "شفق" شمالي سوريا - 19 من حزيران 2023 (شفق)

توزيع سلل غذائية من برنامج الأغذية العالمي عبر منظمة “شفق” شمالي سوريا – 19 من حزيران 2023 (شفق)

آثار كارثية

انقطاع السلة الغذائية له ثلاثة آثار سلبية وخاصة على الشمال السوري المكتظ بالمخيمات وفق هاشم، الأول هو انقطاع الدخل الرئيس عن عائلات فقيرة، خاصة مع وجود خبز مرافق للسلة (وزن ربطة الخبز كيلوغرام)، وتُقدم 15 ربطة خبز كل شهر للعائلة، بالإضافة إلى السلة.

كما تحتوي السلة مواد رئيسة أساسية لكل عائلة من سكر وأرز وزيت نباتي، وهي مواد غير موجودة في المصانع، ولا توجد شركات تصنعها شمالي سوريا، ما يدفع لاستيرادها ويؤدي إلى زيادة الطلب وبالتالي رفع الأسعار.

الأثر الثاني، هو نقص المتممات الغذائية التي تخص الأطفال والتي كانت ترمم وتزيد من فرص تعافيهم من نقص التغذية، وكانت تُوزّع مع السلة الغذائية، لذلك فانقطاع السلة سيجعل جيلًا من الأطفال غير سليم صحيًا، وغير قادر على تحمل البيئة التي هي بالأصل بيئة نزوح وتهجير وفقر.

ويكمن الأثر السلبي الثالث بتراجع وبطء العجلة الاقتصادية في الشمال السوري، لأن السلة الغذائية توفر فرص عمل لكثير من العمال من موزعين وشركات نقل وشركات تعبئة وغيرها، وفق هاشم.

وأوضح هاشم أن الكتلة المالية التي تدخل إلى الشمال ستُفقد نتيجة عدم وجود السلال الغذائية، ما سيؤثر سلبًا على كل المجتمع داخل الشمال السوري.

الطبيب السوري والناشط في المجال الإنساني والعامل السابق في مجال المساعدات والمناصرة محمد كتوب قال، إن أي تخفيض للمساعدات آثاره كارثية، وحقيقة القضية بيد المانحين وليس المنظمات.

وأوضح كتوب أنه يجب العمل على برنامج الاستجابة الإنسانية لتحويله من الاستجابة الطارئة إلى دعم مشاريع مستدامة تسهم بتعافي المجتمعات وتقليل اعتمادها على المساعدات، وهي مشكلة سببها نظام المساعدات نفسه.