“اضطراب الانتماء”.. نظرة من اللجوء إلى الوطن الأم

ركاب يستقلون حافلة للنقل العام على جسر "الرئيس" في دمشق - 26 من تشرين الأول 2023 (عنب بلدي / سارة الأحمد)

camera iconركاب يستقلون حافلة للنقل العام على جسر "الرئيس" في دمشق - 26 من تشرين الأول 2023 (عنب بلدي / سارة الأحمد)

tag icon ع ع ع

عنب بلدي – حسام المحمود

جاء في كتاب “الحنين للأوطان” لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، أن “من علامة الرشد أن تكون النفس إلى مولدها مشتاقة، وإلى مسقط رأسها تواقة”، مع الإشارة إلى حنين الملوك والأنبياء لمواطن آبائهم، فأوصى بعضهم أن يُدفن حيث ولد، أو حيث ولد أبوه، لا حيث يقيم، أو حيث قام ملكه وسلطته.

قد لا يبدو حديث الجاحظ الذي جاء في القرن التاسع الميلادي مقياسًا فاصلًا بهذا الصدد، عند تأمل مكان الميلاد، والأسباب التي قادت إلى مفارقة الأرض والوطن، إذ تختلف حالة ومشاعر وأفكار المفارق لتجارة، عن مثيلاتها لدى هارب من آلة قتل وقصف، وباحث عن حياة في الوقت نفسه.

وعلى مدار 13 عامًا، أنتج فيها تعاطي النظام السوري بالبراميل والدبابات مع الحراك الشعبي المطالب بتغيير سياسي في سوريا ملايين اللاجئين الموزعين على دول العالم، عاين السوريون حياة مختلفة عن تلك التي عاشوها في بلادهم، بمستوى متفاوت نسبيًا، حسب البلد أو الدولة التي انتقلوا إليها، ولا يمكن قياس هذه الحالة على وقت اللجوء نفسه فقط، إذ تنسحب على أوضاع البلدين، المصدّر والمستقبل للاجئ، حتى ما قبل الثورة في سوريا.

تفاوت في مستوى الخدمات، وتخلّص من مناقشة تفاصيل الاحتياجات اليومية، وتقليص مساحة الخوف، بما لا يلغي الضغوطات القانونية، أو يرجح حالة الاستقرار، إلى جانب اندماج فئات من اللاجئين في المجتمعات أو الدول المضيفة، والتوصل لحالة استقرار أو ثبات قانوني تصنعه شرعية الوجود في البلد، بالأوراق الثبوتية والرسمية، كلها تفاصيل جوهرية لا يمكن إلغاؤها عند الحديث عن نظرة السوريين من الخارج إلى بلدهم، وحالة الانتماء، بعد طول فراق لم تتوقف به حالة التراجع والتدهور على مختلف المستويات والأصعدة في سوريا.

عمار، شاب سوري يقيم في اسطنبول بعدما غادر مدينته الحسكة، أوضح لعنب بلدي أنه عاش تجربة اللجوء أكثر من مرة، إذ لجأ إلى أربيل عام 2017، وهناك لم يتوصل إلى ظروف حياة مواتية تمكنه من المتابعة، ما دفعه للعودة حينها إلى سوريا، قبل الخروج إلى تركيا لأسباب اقتصادية بحتة، وهربًا من الجوع، على حد قوله.

ويرى عمار (41 عامًا) أن الظروف غير المواتية في بلد اللجوء تبعد اللاجئ أكثر عن بلده، وتشغله بالبحث عن بدائل أخرى، فيسعى لمغادرة بلد اللجوء إلى بلد لجوء آخر، كالانتقال من تركيا إلى ألمانيا أو هولندا، دون مجرد التفكير بالعودة إلى سوريا، فالناس يكافحون في سوريا للحصول على لقمة العيش، وفق عمار.

“الضغوط القانونية واليومية تولد لدى اللاجئ الكثير من الانحرافات، ومنها خلخلة الإيمان بالإنسانية، على مستوى الأقارب وأبناء الوطن”، أضاف الشاب.

الواقع ينطق

رغم محاولات متكررة من النظام السوري لتقديم صورة ناصعة عن الحياة في ظل سيطرته، عبر استغلال “اليوتيوبرز” والترويج لحياة يسمع عنها المواطن ولا يتلمسها، إلى جانب إقامة مهرجانات وحفلات، ووضع مخططات تنظيمية للبناء والعمران، والدعوة لعودة اللاجئ، لكن الواقع يقول العكس، فالدعوة لعودة اللاجئين تبعها حديث رسمي عن معوقات العودة، واعتراف السلطة بأن العودة تتطلب كهرباء وماء ومدارس وطبابة وغيرها من أساسيات الحياة غير المتوفرة.

كما حوّل الظرف الاقتصادي المتردي في سوريا بعض اللاجئين لـ”طوق نجاة” لذويهم المقيمين في سوريا، مع انخفاض قيمة العملة المحلية أمام الدولار الأمريكي لمستويات قياسية، إلى جانب ارتفاع أسعار مختلف السلع والخدمات والاحتياجات، مع غياب ما يمكن أن يغطي هذا الارتفاع، على مستوى الأجور والمعاشات الشهرية، وتحديدًا الحكومية، التي يبلغ حدها الأدنى نحو 186 ألف ليرة سورية.

ويعادل الحد الأدنى للرواتب بعد الزيادة التي أقرها رئيس النظام، بشار الأسد، منتصف آب الماضي، نحو 13 دولارًا أمريكيًا مقارنة مع سعر صرف الدولار، وفق موقع الليرة اليوم المتخصص بمتابعة أسعار الذهب والعملات الأجنبية.

وبحسب دراسة صادرة عن مؤسسة “فريدريش إيبرت” في أيلول 2019، أدى التشتت الذي عاشه السوريون خلال سنوات الثورة إلى تحسين الظروف المعيشية لكثير من العائلات.

ومنذ عام 2020، يعيش نحو 90% من السوريين تحت خط الفقر، بحسب ما ذكرته ممثلة منظمة الصحة العالمية في سوريا، أكجمال ماجتيموفا، منتصف ذلك العام، بينما تحذر تقارير منظمات أممية ودولية باستمرار من فداحة الوضع الإنساني في سوريا، وعمق احتياجات المقيمين في مختلف مناطق السيطرة للمساعدات الإنسانية.

وخلال إحاطة قدمها أمام مجلس الأمن في 29 من حزيران الماضي، أشار وكيل الأمين العام للأمم المتحدة ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ، مارتن غريفيث، إلى أن 90% من السوريين تحت خط الفقر، مع توقعات بأن هذا الرقم أعلى حاليًا.

الصورة ضبابية

الباحث الاجتماعي حسام السعد، فصل بين مستوى الواقع الخدمي وشعور الانتماء لدى أي مواطن، وبالنسبة للسوريين خارج بلادهم، ممن عاينوا علاقة المواطن بدولته يتبين أن المسألة لا ترتبط بالخدمات، فهناك عقد اجتماعي بين الدولة ومؤسساتها، وبين الأفراد أنفسهم، وبالتالي هناك مهام وواجبات وحقوق واضحة للأفراد.

وقال الباحث لعنب بلدي، إن السوري اللاجئ قادم من بلاد وثقافة يغيب عنها العقد الاجتماعي، وهناك سطوة للسلطة والمؤسسات التي لا تعمل بشكل مؤسساتي، وهو ما يخلق حالة إرباك في الانتماء، وهذا يرتبط بشرعية السلطة من عدمها، وإيمان الفرد بامتلاكه دور شراكة في هذا العقد الاجتماعي.

وعلى مدار أكثر من 50 عامًا في سوريا كانت البلاد مرهونة بيد حزب مزج بين الوطن والسلطة، فالتصق اسم سوريا باسم عائلة وبالفساد والسلطة الأمنية مع غياب العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، كما أن 13 عامًا، ورغم أنها وقت طويل، لكنها غير كافية لكشف العلاقة مع الوطن، بالإضافة إلى أن الانتماء والهوية من الضروري أن تتجاوز هذه الناحية من أجل السعي لعقد اجتماعي جديد، وفق الباحث.

وتعتبر سوريا حالة متأخرة وخيارًا قد لا يكون مطروحًا بالنسبة للسوريين في الخارج، باستثناء الموجودين ربما في دول الجوار العربية، ممن يعانون ظروفًا تشبه الوضع في سوريا، كما أن الظروف الحالية في سوريا، ووجود أربع سلطات على الأرض، وغياب الحل، يساعد في تعزيز الضبابية لدى السوري في الخارج، فلا يمكنه الجزم ربما بما تعنيه له سوريا، وهو ما يفسر عدم رغبة كثير من السوريين بالعودة إلى مناطق سيطرة النظام، باعتبار أن العودة تسهم جزئيًا في إعادة إنتاج النظام دون وجود نموذج مغاير لما عايشوه على مدار عقود.

“حالة ضياع بالنسبة للسوريين، ولا قوى اجتماعية أو ثقافية أو سياسية مع السوريين في الخارج، السوريون متروكون في الفلاة، لا مؤسسة أو منظمة تعمل على وعي اللاجئ أو انتمائه، ولو بإطار ضيق، وهذا يعزز حالة الضبابية أيضًا”، قال الباحث حسام السعد.

اضطراب هوية

الباحثة الاجتماعية عائشة عبد الملك، أوضحت لعنب بلدي أن هناك فجوة بين الأهل والشباب، لأن الأهل نشؤوا على نمط معين من التربية الاجتماعية والدينية والوطنية، وبعد خروجهم بأطفالهم الصغار، اختلط الطفل ببيئة مغايرة، ما يدفع العائلة ضمن الانتماء الصغير وهو الأسرة، أن تربي أطفالها كما نشأ الأب والأم.

وهناك حالة صدام للشباب مع نفسه، فهو مضطر للأخذ من البيئة بما يتعارض مع قناعات العائلة، وهناك اضطراب آخر يمكن أن يصيب الشخص جراء هذه المواقف، وهو اضطراب الانتماء أو الهوية، إذ يواجه المغترب مجتمعًا جديدًا بأفكار تتعلق باندماجه بالبلد وفهمه للناس، لكن الشعب المضيف ينبذه، ومنهم حملة الجنسيات الذين يعانون رفض المجتمع الجديد من ناحية، إلى جانب تراجع الانتماء للمجتمع الأصلي من ناحية أخرى، فلا هو ابن المكان فعلًا، ولا ابن الحاضنة الأساسية فعلًا.

ويمكن الإشارة هنا إلى حديث السوري المتمكن من لغة البلد المضيف بهذه اللغة، وابتعاده عن لغته ما استطاع، تحاشيًا لملامسة هشاشة الانتماء لديه، أو تصنيفه ضمن فئة أو شعب لا ينسجم معه بالكامل.

وبالحديث عن الانتماء والاندماج، ترى عبد الملك أن الاندماج طريقة للتعامل مع الأشياء ويمكن فصلها فيما بعد، عند مغادرة المكان مثلًا، لكن الانتماء لا يتجزأ، وهو مسألة يعاني منها الشباب في بداية الـ30 من العمر، ممن عاصروا بداية ظهور التكنولوجيا في سوريا قبل اغترابهم، وهو ما يفسر ميل الأكبر سنًا من هذه الفئة العمرية للعودة إلى الوطن، وتحديدًا بالنسبة لمن يعيش في بلد لا يشبه سوريا أبدًا.

وبالنسبة لعودة اللاجئين، وبمعزل عن الحالة السياسية والاقتصادية والأمنية والخدمية، فالنظام السوري لن يقبل عودة أجيال عاشت ببيئة ونشأت بطريقة تختلف عن طريقة حياة آبائها داخل سوريا، لأنها تعتبر فئة متعبة وغير مأمونة، إلى جانب كون هؤلاء أنفسهم لا يرون في سوريا مكانًا يكملون حياتهم فيه.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة