تحت ظلال الرايات الشيوعية

tag icon ع ع ع

إبراهيم العلوش

بعد 30 عامًا من انهيار الدولة السوفييتية والدول الشيوعية، وجدت نفسي السبت الماضي أسيرًا تحت ظلال رايات أحد الأحزاب الشيوعية الفرنسية!

شيوعيون قدامى يسترجعون الزمن البعيد، وشيوعيون شباب لا ينسون تقبيل بعضهم أمام الناس في أثناء توقف الهتافات، لعلهم يعبّرون عن ابتهاجهم من كثرة الناس الذين يسيرون تحت راياتهم من أمثالي وأمثال صديقي الشيوعي القديم، الذي رحب بي بحرارة وأنا أنضم للمسير تحت الرايات الحمراء.

كان الجميع يهتف من أجل غزة، هتفنا تحت المطر وطالبنا بوقف إطلاق النار، ونددنا بالحصار على المدنيين الذين حوّلتهم إسرائيل إلى مجرد “حيوانات بشرية”، كما يردد الإعلام الإسرائيلي وعلى رأسه وزير الدفاع، الذي بشر العالم بقطع الماء والكهرباء وكل مقومات الحياة عن 2.2 مليون إنسان وبلا رحمة.

في المظاهرة، وتحت نفس الرايات الحمراء، كان عدد كبير من الرجال من أصول عربية، بالإضافة إلى عدد لا يستهان به من النساء المحجبات وغير المحجبات وقد تصدرن الجموع في الهتاف ورفع الرموز الفلسطينية جنبًا إلى جنب مع الرايات الشيوعية، التي يحنّ حاملوها إلى الزمن القديم أيام النزاعات الفكرية والحزبية بين اليسار واليمين، وأيام تخلي الكثير من الشيوعيين الأوروبيين عن النزعة الستالينية التي أغرقت الشيوعيين عبر العالم بتبرير الستالينية.

الكثير من الشيوعيين السوريين طوّروا أفكارهم واستجابوا لتغيرات العالم وتعدد أفكاره ولم يتركوا الساحة الفكرية والثقافية للمدّ الديني المتطرف، ولكن بعضهم بكل أسف تحولوا إلى منظّرين في الطائفية، ولعل بعض الشيوعيين الذين ظلوا في الجبهة الوطنية التقدمية لا يزالون يتحمّسون لنظام بشار الأسد، رغم كل الجرائم التي يرتكبها كل يوم بحق أبناء بلدهم، وهم لا يخفون حماستهم للقصف الروسي، وبراميله المتفجرة، وأسلحته الكيماوية، معتبرين أن روسيا البوتينية خليفة الاتحاد السوفييتي “الصديق”، حيث تقبّلوا قصف روسيا للمدارس والأسواق الشعبية والمستشفيات عن طيب خاطر على مبدأ المثل الشعبي “يا خال فيك ريحة أمي”!

الحضور العربي والفلسطيني في المظاهرات الفرنسية قوي ويشكل ركيزة مهمة لجذب الرأي العام الفرنسي إلى إجراء مراجعة للموقف الرسمي، الذي انحاز إلى إسرائيل بعد 7 من تشرين الأول الماضي، ولكنه سرعان ما بدأ التغيير، ولم تعد فرنسا من أوائل الداعمين لإسرائيل في حملتها ضد المدنيين الغزاويين مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا، وتخشى فرنسا من تصنيف أحداث الشغب في الضواحي كشبيه لعلاقة الإسرائيليين بالفلسطينيين، وقد تفجرت النقاشات بين الجانبين المؤيد لإسرائيل والمندد بتصرفاتها.

في مقال أوردته صحيفة “اللوموند” في 8 من كانون الأول الحالي، استعرض نيكولاس ترونج مختلف الآراء الفكرية، اعتبارًا من الرأي الذي لا يساوي بين عمق معاناة إسرائيل في 7 من تشرين الأول وبين معاناة الفلسطينيين، بالإضافة إلى النقاشات التي تحاول دراسة إسرائيل هل هي مجرد دولة استعمارية أم دولة فصل عنصري، وهل كارثة المحرقة اليهودية تتساوى بكارثة نكبة 1948، ويرفض البعض الانتقائية، ويعتبر المعاناة الإنسانية واحدة وليست سلعًا متعددة في السوق يأخذ منها كل واحد ما يرغب به، ويعتبر آخرون أن السلام هو الغائب عن كل النقاشات، وعلى إسرائيل أن تعود إلى الاتفاقات التي وقعها إسحاق رابين وياسر عرفات وتحسينها، وفتح الحوار بين الجميع والكف عن جعل انتقاد سلوك إسرائيل معاداة للسامية.

وفي مقال آخر يذهب بعض المؤيدين لإسرائيل إلى تصوير تفجير جدران العزل الإسرائيلية بأنه تفجير حواجز حماية الحضارة وتدفق التطرف والإرهاب للقضاء على دولة إسرائيل “التي تمثل كل قيم التحضر والإنسانية”! طبعًا هم يتجاهلون طرق معاملة الإسرائيليين للشعب الفلسطيني، متناسين أن غزة كانت ولا تزال مجرد سجن كبير لشعب متهم دائمًا بالإرهاب، عدا عن كون إسرائيل لم تلتزم بأي من القرارات الدولية وهي تستخف علنًا بالقانون الإنساني الدولي، وتهدد الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، بتصنيفه مؤيدًا لـ”حماس”، وتمنع بعض كبار موظفي الأمم المتحدة من الدخول إليها، إضافة إلى تهجّمها على المستودعات الغذائية لـ”أونروا”، وهي تُعدّ العدة لتهجير الفلسطينيين إلى سيناء.

اليمين الفرنسي يطلق على مؤيدي المهاجرين وعلى المتعاطفين مع الشعب الفلسطيني لقب اليساريين الإسلاميين، وهذا اللقب صار شائعًا، وقد قامت وزيرة التعليم العالي السابقة، فريدريك فيدال، بإعادة إطلاق اللقب ضد عدد من الأساتذة في العام 2021، وتم إيقاف بعضهم عن التعليم لأنهم نددوا بـ”الإسلاموفوبيا” ورعاية اليمين المتطرف لهذه الظاهرة التي تمزق المجتمع.

كثيرًا ما أسمع ميلانشون الشيوعي المفوه وهو يلقي خطاباته الحماسية، رغم رفضي لعدد من قناعاته المتآكلة، مثل نظريات المؤامرة وتأييده لبوتين، لكن موقف ميلانشون حاسم في رفض الادعاءات الإسرائيلية وفي مساندة الشعب الفلسطيني، وهو يستقطب أبناء الضواحي من المهاجرين العرب والمسلمين الذين يعتبرون قتل المدنيين الفلسطينيين جريمة ضد الإنسانية.

يوم السبت عند الفرنسيين هو يوم المظاهرات، ولا يخلو هذا اليوم منذ بدء حرب إسرائيل ضد سكان غزة من مظاهرة ضد استمرار القتل، وفي كل سبت تجد المهاجرين من كل دين ومن كل لون متحدين مع بقايا الشيوعيين واليساريين الفرنسيين من أجل المطالبة بالسلام ووقف الهمجية الإسرائيلية التي تحتقر القوانين الإنسانية الدولية.

وسأسير مع صديقي الشيوعي السابق تحت الرايات الحمراء وغير الحمراء التي تهتف من أجل وقف المحرقة في قطاع غزة.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة