في وداع عام آخر

tag icon ع ع ع

إبراهيم العلوش

مر عام آخر من المآسي السورية والعربية التي تفوق الخيال، مر عام على انفجار ثورة الذكاء الاصطناعي التي تبشر بتغيير العالم.

خلال العام 2023 لم ينقطع القصف الروسي عن الشمال السوري، والميليشيات الإيرانية تزدهر، والقصف الإسرائيلي يتمدد، وحزب “البي كي كي” ينشر نفوذه مستبدلًا فشله في تركيا بنجاحات مؤقتة في سوريا، وهو يحلم بجعلها نفوذًا دائمًا ما دام الوجود الأمريكي في سوريا مستمرًا.

يحلم العالم بخفض نسبة التلوث والحفاظ على الكوكب، بينما تتم تصفية المدنيين في قطاع غزة وفي الشمال السوري وفي المعتقلات بلا رحمة، وتدعم ذلك الدول الأوروبية وأمريكا باعتبار أن شعوب المنطقة أقل قيمة وأقل تأثيرًا، هم وحكامهم، ولا مجال للسماح لهم بالتصرف بمصيرهم، فبترول العرب أهم من العرب ومن صحرائهم، والممرات البحرية أهم من الشعوب التي تقطن شواطئها.

ولعل شاطئ غزة وما يحصل له مجرد درس جديد لإذلال العرب وحكامهم، في سلسلة من الدروس والمآسي ابتدأت مع “سايكس بيكو” و”وعد بلفور” 1917، مرورًا بنكبة 1948 وهزيمة 1967 واجتياح لبنان 1982، وتحويل الربيع العربي (2011) إلى خريف من القتل والتهجير، وصولًا إلى المحرقة العلنية للشعب الفلسطيني التي تجري اليوم في غزة والضفة الغربية وعلى الهواء مباشرة دون خجل، ودون حساب للتلوث، وبلا أي اعتبار للحفاظ على النفس البشرية التي بنت الحضارة على هذا الكوكب.

خلال هذا العام وصل المزيد من الصور من تلسكوب “جيمس ويب”، وهي تقدّر عمر الكون ومنشأه وتغير نظرة العلماء عن المادة وتركيبها في الكون، وهم يدرسون النجوم التي تبعد ملايين السنوات الضوئية، ويحلمون بانتقال الحياة البشرية إلى كواكب جديدة وبداية حلم جديد للبشرية، بعد أن ازدهرت الحضارة على هذا الكوكب الذي ينتكس اليوم إلى القتل العلني، ويستمتع قادته العسكريون بقتل المدنيين وتعذيبهم وتهجيرهم، وهذا ما يعيد السؤال الوجودي للبشر، ويشكك بجدوى نقل حضارة كوكب الأرض إلى الكواكب البعيدة ليملأها قتلًا وإذلالًا وتلويثًا.

العالم الغربي، الذي يعيش على بيع القنابل المدمرة والصواريخ والطائرات التي تدمر بيوت المدنيين، ما الجدوى من تصدير أفكاره إلى الكواكب الأخرى؟

وطبعًا المأساة لا تقل عنفًا مع روسيا وإيران وكوريا الشمالية، البلاد التي تزعم بأنها تحلم بعالم خالٍ من الغرب الاستعماري، لتنقل العالم إلى أقفاص الدكتاتوريات الدموية.

خلال هذا العام، ومع الزلزال الذي ضرب الأراضي السورية والتركية، فإن اللاجئين السوريين جربوا نمطًا جديدًا من التهجير، يختلف قليلًا عن نمط التهجير الروسي والإيراني الذي يرعاه نظام الأسد وعسكره، بعد أن باعوا البلاد لمن يضمن استمرارهم، وحولوا ما تبقى منها إلى بؤرة للمخدرات والميليشيات الطائفية.

ولكن العالم تفاعل قليلًا مع مأساة السوريين في الزلزال، وإن كانت النجدات قد وصلت بعد موت المئات تحت الأنقاض، لأن فرق الإنقاذ والمساعدات الدولية كانت تركّز على تركيا أكثر من تركيزها على اللاجئين في الشمال السوري، وقد استفاد نظام الأسد من جباية المساعدات واللقاءات الدبلوماسية محاولًا فك عزلته الدولية التي تخنقه وتفقده الشرعية، منذ إطلاق أول صاروخ على المحتجين المدنيين.

الذكاء الاصطناعي بدوره استحوذ على الاهتمام الدولي وبدأت النقاشات الرسمية والشعبية بتوقع انعكاساته على الحياة البشرية، ومنافعه وأضراره التي تمهد لتحويل القرار البشري إلى قرار آلي، ما يهدد مستقبل البشرية خلال العقود والقرون المقبلة.

وقد انطلقت بوادر تأثيره من التعليم والرسم والكتابة والبرمجة، وصولًا إلى قرارات إطلاق النار واختيار الأهداف بلا رقابة بشرية، وهذا ما زاد في تورط إسرائيل في قتل المدنيين، إذ إن برنامج الذكاء الاصطناعي “غوسبيل” (The Gospel) الذي طوره الجيش الإسرائيلي، كان له دور الكبير في سرعة اختيار الأهداف في غزة، ما زاد الدمار الشامل والقتل العشوائي الذي أراح ضمائر القادة الإسرائيليين المنغمسين في الانتقام بشكل وحشي.

على أصوات القصف انعقد مؤتمر “COP 28” في دبي من أجل الحفاظ على الحياة في كوكب الأرض وخفض التلوث، برئاسة أحد قادة شركات الإنتاج النفطي، وهذا ابتكار عربي في معالجة التلوث، وفي البحث عن طاقة بديلة تحت ظلال الدخان الذي يخلّفه البترول ويلوث به العالم.

ولكن الذكاء الاصطناعي أسهم أيضًا بكسر احتكار وسائل الإعلام التقليدية للخبر وللتأثير على الناس، وقد كان النجاح في نشر أخبار مأساة غزة باهرًا حول العالم، وقلل من تأثير عصابات الإعلام التقليدية التي وجدت نفسها معزولة أمام صحفيي كاميرا الهاتف وجرأة هؤلاء المصورين الذين اخترقوا الحصار الإسرائيلي على جريمة غزة، وملأوا العالم صورًا وفيديوهات نجحت بتغيير قرارات الدول بعد المظاهرات التي شملت العالم العربي والإسلامي والعالم الغربي في أوروبا وأمريكا، وأظهرت للعالم حقيقة الوحشية الإسرائيلية التي تلتهم أراضي وأحلام الفلسطينيين وتنهش كرامتهم عبر الاعتقال والتنكيل والإجبار على التنازلات المهينة.

يمر العام 2023 صاخبًا ومأساويًا، ولكنه متعدد الأوجه، هذا التنوع يجبرنا على التغيير وعلى مواكبة العصر وابتكاراته، ويدفعنا إلى تغيير طرقنا في العيش وفي الدفاع عن أنفسنا، ولعل هذا التغيير سيتصاعد أكثر وأكثر وسيشمل حتى وصفات كعك العيد، وحفلات العام الجديد، وسيحمل شيئًا من الأمل لكل المحرومين بتقديم برامج المشاركة والتعليم، وتقديم الرفاهية حتى للمعذبين على هذا الكوكب، وقد يسهم في تغيير مستقبل سوريا وانتشالها من الدكتاتورية والعنف وصناعة “الكبتاجون” إلى شاطئ التكنولوجيا الحديثة، الذي تحلم به المواهب السورية المتألقة رغم المآسي.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة