ناصر بندق ومحكمة العدل الدولية

tag icon ع ع ع

إبراهيم العلوش

صورة الشاعر السوري ناصر بندق مع عصفور على يده، تلخص مشاعره الرقيقة وحسه الإنساني الذي دفعه لمساعدة المحاصرين والنازحين في ريف دمشق، ما تسبب باعتقاله وموته تحت التعذيب.

في الأسبوع الماضي، سجل النظام ارتكابه جريمة تعذيب بحق الشاعر السوري ناصر بندق، الذي اعتقله في 17 من شباط 2014، ولم يعرف أهل الشهيد أنه توفي قبل عشر سنوات إلا عبر السجل المدني، وذلك قبل أيام. وقد أعلن أخيرًا في ساحة “الكرامة” بالسويداء أنه استشهد في 5 من آذار 2014، أي بعد أسبوعين من تاريخ اعتقاله.

وفي الأسبوع الماضي أيضًا، أعطت محكمة العدل الدولية لنظام الأسد مهلة سنتين من أجل مواجهة التهم بارتكاب أعمال التعذيب في المعتقلات والسجون، التي يديرها بإشراف إيراني ورعاية روسية، إذ تقدّر منظمات حقوق الانسان المحلية والدولية أعداد المعتقلين الذين ماتوا تحت التعذيب بنحو 105 آلاف، ولا يزال عشرات الآلاف مجهولي المصير ضمن نظام تقسيط الإعلان عن القتلى الذي ينتهجه نظام الأسد، في تحدٍّ سافر لحقوق الإنسان السوري، وتمسكه بحالة الإنكار التي ترددها أجهزته عبر وسائط “الميديا” وأمام المحاكم الدولية.

وللغرابة، فإن النظام قد أصدر قرارًا بمنع التعذيب في العام 2022، انسجامًا مع المعاهدات الدولية الخاصة بالتعذيب، وذلك بعد تفريغ الشروط الدولية من مضمونها، بالإضافة إلى رعايته لنظام قضائي فاسد ويرتبط مباشرة بأجهزة المخابرات، ولعل السوريين لا ينسون سلوك المحاكم العسكرية ومحكمة أمن الدولة وغيرها من المحاكم الصورية، التي لا تعطي للمتهم أكثر من دقيقة واحدة للكلام قبل أن تقرأ عليه الحكم بالإعدام، أو بالبراءة التي لا تشفع بالإفراج عنه، بل إلى تمديد اعتقاله حتى الموت.

نظام الأسد لديه تجربة طويلة في إخفاء أثر المعتقلين والتنكر لوجودهم منذ الثمانينيات، وقد تاجر ضباط المخابرات بأخبار المعتقلين وببيع هويات المتوفين تحت التعذيب ليتمكن أهاليهم من طي صفحة الأمل الكاذب، الذي يبيعهم إياه صغار المخبرين ويبتزونهم به.

منذ العام 2020، حاولت هولندا وكندا التفاوض مع النظام حول التوقف عن ممارسة أعمال التعذيب تحت طائلة التقدم بدعوى قضائية دولية، إلا أن النظام اعتبر أن اتهامات التعذيب والاعتقال استمرار للمؤامرة (الكونية) عليه وعلى عائلة الأسد، ومنعت روسيا، باستخدام حق “الفيتو”، الدولتين من التقدم بدعوى أمام محكمة الجنايات الدولية.

قبلت محكمة العدل الدولية أخيرًا تسجيل الدعوى، ولكن النظام رفض الامتثال للحضور، واستمر بحالة الإنكار وتوزيع الأكاذيب القانونية والإعلامية حول براءته من قتل السوريين، رغم أن المحكمة جمعت مئات الأدلة على ممارساته في المعتقلات، وتقدم عدد كبير من اللاجئين السوريين في أوروبا إلى المحكمة يشرحون تجاربهم في المعتقلات السورية وتحت القصف الكيماوي، وشهادات عن ذويهم الذين اختفوا في شبكة الفروع الأمنية التي يديرها نظام الأسد.

وكان لـ”الشبكة السورية لحقوق الإنسان” دور في جمع الشهادات والتعاون الدولي، بالإضافة إلى “المرصد السوري لحقوق الإنسان”، إذ أكدت المنظمتان استمرار ممارسات التعذيب، وقد سجلتا 9 حالات وفاة تحت التعذيب خلال الأشهر القليلة الماضية.

فريزة بندق، زوجة الشاعر الراحل، أكدت وجود زوجها (ناصر بندق) في فرع “الأمن العسكري” (227) بعد أيام من اعتقاله، حسب شهود عيان، وظلت فريزة مع عائلة الراحل تتعلق بالأمل الذي يبيعه ضباط المخابرات لذوي المعتقلين، حتى اكتشفوا في الأسبوع الماضي أنه توفي قبل عشر سنوات. وقد أمضى الراحل الفترة بين 17 من شباط و5 من آذار 2014 تحت ظروف وحشية، أدت إلى وفاته وتستر النظام على تلك الوفاة بتسريب أخبار كاذبة عن حالته الممتازة، وقرب الإفراج عنه طوال السنوات العشر التي مرت على وفاته.

الجريمة التي ارتكبها ناصر بندق هي مساعدة اللاجئين في ريف دمشق للحصول على الطعام وعلى المأوى ومداراة جراح الأطفال، الذين قصف النظام بيوتهم وحاصر ذويهم في حملة للتجويع أدارها “حزب الله” اللبناني والميليشيات الإيرانية وحمتها الطائرات الروسية، بالإضافة إلى “الفيتو” الروسي الذي يبرر أعمال القتل بمحاربة الإرهاب!

ومن الآن إلى عام 2026، موعد مرافعة النظام عن نفسه، وبعدها سيتم النطق بالحكم ربما في العام 2027 أو بعده، كم من المعتقلين سيموتون في الفروع والسجون السورية، كم من النفوس المعذبة ستعاني، كم من الأهالي سيعانون ألم الانتظار وموجات الأمل واليأس من عودة ذويهم المحتجزين لدى النظام.

محكمة العدل الدولية متمهلة في الأمر بإنهاء حالات التعذيب، أما الإيرانيون الذين يتحكمون مع الروس بقرارات النظام ويشرفون على أساليب التعذيب فهم يستمتعون بهذه الممارسات التي لم يبخلوا بمثلها على مواطنيهم، فالتعذيب في إيران يكاد يكون هواية للمرشد خامنئي، وهو لا يقل أهمية بالنسبة لأجهزة النظام الروسي التي تعذّب الأوكرانيين وتقمع الروس المحتجين بلا هوادة. وتأتي وفاة المعارض الروسي الكبير أليكسي نافالني في سجنه وسط صقيع القطب الشمالي يوم الجمعة خير دليل.

من ينقذ عشرات ألوف المعتقلين السوريين الذين يكابدون ما كابده ناصر بندق في الجحيم الأسدي، من يحتمل كل هذا العذاب حتى صدور قرار محكمة العدل الدولية التي لا تحسب حسابًا لزمن التعذيب. وبحجة الرصانة وتحري الدقة، تعطي النظام المزيد من الوقت وهو يدير آلة التعذيب الرهيبة بحق السوريين. ولم تطالب المحكمة نظام الأسد بكتابة تقارير دورية عن حالة السجون، ولا بفتح السجون أمام منظمات الأمم المتحدة للتأكد من ادعاءات النظام بعدم القيام بأعمال التعذيب.

فريزة بندق لم تستسلم لليأس، وتؤكد أنه يجب المتابعة كما كان يرغب الشهيد ناصر بندق، وهي تعيد مقولة أحد أبطال قصة “القميص المسروق” لغسان كنفاني، “ليس المهم أن يموت أحدنا.. المهم أن تستمروا!”.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة