سبعة أعوام على كيماوي خان شيخون.. الشهود يتألمون ومرتكبوها بلا محاسبة

وقفة احتجاجية للدفاع المدني في ذكرى مجزرة خان شيخون- 1 نيسان 2024 (لا تخنقوا الحقيقة- فيسبوك)

camera iconوقفة احتجاجية للدفاع المدني في ذكرى مجزرة خان شيخون- 1 نيسان 2024 (لا تخنقوا الحقيقة- فيسبوك)

tag icon ع ع ع

يبكي عبد الحميد اليوسف بحرقة كلما يحلّ الرابع من نيسان، ذكرى مجزرة خان شيخون، فمع قدوم هذا التاريخ ترتسم في مخيلته صور أطفاله وزوجته وبقية أفراد عائلته وهم جثث هامدة بلا دماء، وما يزيد قهره أكثر أنه هُجّر من مدينته قبل حوالي خمس سنوات كحال بقية سكان خان شيخون، ولم يعد بإمكانه حتى زيارة قبور ذويه، ليمسك التراب بيده ويشم عطر أنفاس أرواحهم التي لم تفارقه يومًا.

في الساعة السابعة من صباح الرابع من نيسان 2017، استيقظ أهالي خان شيخون بريف إدلب، على أصوات قصف عنيف طال المدينة، ترافق مع خروج رائحة غريبة، وسرعان مع بدأ المدنيون يتساقط أرضًا بعد اختناقهم بغاز السارين الذي قصفت به قوات النظام المدينة.

بعد دقائق من القصف بدأت تنتشر على منصات التواصل الاجتماعي، صورٌ هزت العالم لمدنيين بدوا وكأنهم نيام، لم يسعفهم احتماؤهم بالملاجئ من السلاح الأخطر الذي استخدمه النظام، بل جعلهم ضحايا مجزرة مروعة دون أن تسيل منهم قطرة دم، فكانوا شهداءَ بلا دماء.

الشبكة السورية لحقوق الإنسان وثقت مقتل 91 مدنيًا بينهم 32 طفلًا و23 سيدة (أنثى بالغة) خنقًا بغاز السارين في خان شيخون، وإصابة قرابة 520 شخص.

عبد الحميد اليوسف الذي فقد 25 شخصًا من عائلته في مجزرة خان شيخون في زيارة لقبور ذويه- 2 نيسان 2018 (AFP)

عبد الحميد اليوسف الذي فقد 25 شخصًا من عائلته في مجزرة خان شيخون في زيارة لقبور ذويه- 2 نيسان 2018 (AFP)

أكبر المفجوعين بمجزرة خان شيخون

عبد الحميد اليوسف البالغ من العمر (34 عامًا) كان أكبر المفجوعين بمجزرة خان شيخون، كيف لا وقد فقد 25 شخصًا من أقاربه أي أكثر من ربع ضحايا المجزرة، وهم طفليه التوءم أحمد وآية وزوجته دلال، وشقيقه عبد الكريم، وشقيقه ياسر وزوجته وطفليه وعدد من أقاربه.

يجلس عبد الحميد أمام عتبة منزله في منطقة قرب باب الهوى التي هُجّر إليها، وبصوت يرتجف يحاول أن يسرد تفاصيل ذلك اليوم المرعب التي لا يمكن أن تنسى.

قال عبد الحميد اليوسف، لعنب بلدي، “عند الساعة 06:49 صباحًا استيقظت مع عائلتي على أصوات صراخ الناس وقصف عنيف يدوي المدينة، فخرجنا من المنزل فورًا. حينها بدأنا نشتم رائحة غريبة ومزعجة، فأخذت أطفالي وزوجتي لمنزل أهلها، ثم توجهت مسرعًا إلى منزل أهلي للاطمئنان على مصيرهم”.

“وأنا في طريقي إلى بيت أهلي كنت أشاهد عشرات الجثث على الأرض، ومصابين كانوا يرتجفون والزبد يخرج من أفواههم، حاولت إسعاف بعضهم، ثم أكملت طريقي لمنزل أهلي”، أضاف عبد الحميد، و”هناك كانت الصدمة، شاهدت أخوَيّ ياسر وعبد الكريم قد ماتوا وأطفالهم في أحضانهم”.

جميع من كان في منزل ذوي عبد الحميد توفي خنقًا بغاز السارين، عدا ابنة أخيه التي كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة، فحملها لإسعافها فورًا لكنه فقد وعيه بعد استنشاقه الغازات السامة، ليقوم “الدفاع المدني” بإسعافه إلى المشفى.

بعد ثلاث ساعات من الحادثة استعاد عبد الحميد وعيه وخرج من المشفى، بحثًا عن زوجته وأطفاله، ليتلقى الصدمة الأكبر بعدما علم بوفاتهم إلى جانب 22 شخصًا آخرين من أهله وأقاربه.

أصعب لحظتين لا أنساهما، حين شاهدت جثث زوجتي وأطفالي وأخوتي وأبنائهم جميعًا في مكان واحد، لم أعد أعرف من سأحمل بيدي ومن سأودع وأضم إلى صدري، واللحظة الثانية الأصعب حين دفنت أطفالي وزوجتي وأخوتي بيديّ في مقبرة جماعية، موقف مؤلم يهدّ الجبال.

عبد الحميد اليوسف- ناجٍ من مجزرة خان شيخون

أشبه بيوم القيامة

إلى جانب عبد الحميد اليوسف، هناك عشرات العوائل في خان شيخون، التي فقدت شخصًا أو أكثر بمجزرة الكيماوي قبل سبع سنوات، وما زالت ذكرى ذلك اليوم العصيب حاضرة لدى البعض حتى في منامهم.

محمود جاويش من أهالي خان شيخون، كان أحد المفجوعين بمجزرة الكيماوي، وقال، “كنت أعمل في حقلي في ذلك اليوم، سمعت دوي أربع غارات جوية متتالية، فاعتقدت أنها مجرد غارات اعتيادية، فركضت مسرعًا للاطمئنان على عائلتي، وكلما كنت اقترب من الحي الشمالي بخان شيخون الذي جرى قصفه، كنت اشتم رائحة غريبة تزداد قوتها شيئًا فشيئًا، وبدأت حينها بالسعال”.

“كانت الشوارع مليئة بأشخاص مستلقين على الأرض ليست عليهم أي قطرة دم، بعضهم فارق الحياة وبعضهم الآخر يرتجفون وعيونهم جاحظة، وأفواههم يخرج منها الزبد، ولون بشرتهم تحول إلى الزرقة”، أضاف محمود، “كان المنظر أشبه بيوم القيامة، شاهدت عناصر الدفاع المدني وهم يرشون وابلًا من المياه على المصابين، فأسرعت لاستفسر منهم ما الذي يحصل، فأخبروني أن المدينة قُصفت بالغازات السامة”.

توجه محمود جاويش مسرعًا نحو منزله وقلبه يكاد يتوقف من شدة الفزع، وكلّه أمل أن يجد عائلته على قيد الحياة، لكن أمله خاب حين خلع باب منزله ليجد زوجته وأطفاله الثلاثة مستلقين أرضًا وكأنهم نيام، حاول محمود إيقاظهم وهو يصرخ لكن بلا فائدة، فقد ماتوا جميعًا خنقًا بغاز السارين.

متطوع في الدفاع المدني يحمل طفلة توفيت بمجزرة خان شيخون- 4 نيسان 2017 (الدفاع المدني- فيسبوك)

متطوع في الدفاع المدني يحمل طفلة توفيت بمجزرة خان شيخون- 4 نيسان 2017 (الدفاع المدني- فيسبوك)

تحديات واجهت “الخوذ البيضاء”

في صباح الرابع من نيسان، تلقى الدفاع المدني عبر مراصده أنباء بتعرض خان شيخون للقصف الجوي، فأرسل فريقًا إلى هناك للاستجابة للقصف وإسعاف المصابين، ظنًا منه أنه مجرد قصف تقليدي، لكن الفريق تفاجأ حين وصل إلى هناك بأن الغارات لسيت اعتيادية.

عبد الحميد قطيني، متطوع في “الدفاع المدني”، وكان أحد الذين شاركوا في الاستجابة لكيماوي خان شيخون، قال لعنب بلدي، “حين وصلنا لمكان القصف، تفاجأنا بوجود عدد كبير من المصابين بحالات اختناق واختلاج، ومن ضمنهم متطوعون في الفريق الأول الذي استجاب للقصف، وكانت تلك الأعراض إلى جانب الروائح الكريهة، هي الدليل بالنسبة لنا على وجود هجوم كيميائي، فناشدنا عبر القبضات لإرسال فرق أخرى للاستجابة الفورية”.

وأضاف قطيني، “واجهت فرق الدفاع المدني صعوبات كثيرة خلال الاستجابة للهجوم الكيماوي على خان شيخون، أبرزها نقص الأقنعة الواقية ضد الغازات السامة وانعدام أجهزة الكشف، إضافة إلى العدد الكبير من المصابين والضحايا وإصابة عدد من المستجيبين الأوليين”.

ما زاد صعوبة الموقف بالنسبة لفرق “الدفاع المدني”، أن النظام السوري استهدف كذلك عدة نقاط طبية في ريف إدلب الجنوبي وحماة الشمالي قبل هجوم خان شيخون بيومين، كي يمنع الخوذ البيضاء من إسعاف المدنيين بسرعة عقب الهجوم الكيماوي، ما تسبب في سقوط أعداد كبيرة من الضحايا.

الأسد يكرّم منفذ المجزرة

بعد أيام على المجزرة، كشفت صحيفة “التايمز” البريطانية، معلومات عن الطيار الذي يعتقد أنه نفذ الهجوم الكيماوي على خان شيخون، موضحة أنه العميد محمد حاصوري، وهو قائد سرب طيران، وينحدر من مدينة تلكلخ بريف حمص.

الصحيفة نقلت معلومات عن شخص يدعى حسام، الذي يراقب حركة طيران النظام، حيث اكتشف حينها أن طائرة حربية “سوخوي 22” تقلع من قاعدة الشعيرات الجوية في الساعة 06:26 صباحًا، ويعرف الطيار نفسه بأنه “القدس 1”.

الصحيفة نشرت تسجيلًا لحسام وهو يتحدث عبر القبضات قائلًا، “هذه الطائرة الحربية لا تقلع في هذا الوقت ما لم يتم تحميلها بشيء خطير، مواد سامة”، مضيفًا، “القدس 1، يا رفاق لديه مواد كيمياوية، وهو نفس الطيار الذي أسقط المواد الكيمياوية في اللطامنة”، وبعد 12 دقيقة أسقط “القدس 1” أربعة صواريخ على خان شيخون، أحدها كان محملًا بغاز سام.

بعد أسبوع على ارتكابه مجزرة خان شيخون، قام رئيس الأركان في وزارة الدفاع السورية، العماد علي أيوب، بتكريم الحاصوري، لأنه “أباد مخزن الكيماوي للإرهابيين في خان شيخون”، حسب زعمه.

لم يكتفِ الأسد بتكريم المجرم الحاصوري، بل عيّنه في 2020 قائدًا لـ”اللواء 70” في مطار “تي فور” العسكري، بعدما كان نائبًا لقائد “اللواء 50” في مطار “الشعيرات”.

المجرم مازال طليقًا

عقب الهجوم الكيماوي على خان شيخون، طالب سوريون وجهات دولية بمعاقبة الأسد على ارتكابه تلك المجزرة المروعة، وجاء الرد الأمريكي بعد ثلاثة أيام على المجزرة، حيث استهدفت واشنطن مطار الشعيرات العسكري، الذي انطلقت منه الطائرة المحملة بصواريخ السارين، بـ59 صاروخًا موجهًا من طراز “توماهوك”، لكن ذلك الرد لم يؤثر على قدرات النظام العسكرية.

وبعد نحو ستة أشهر على المجزرة وتحديدًا في 27 تشرين الأول 2017، أكّد تقرير دولي أعدته “آلية التحقيق المشتركة” مسؤولية النظام السوري عن إطلاق غاز السارين على خان شيخون في 4 من نيسان 2017.

لكن رغم إدانة النظام بارتكابه مجزرة خان شيخون وغيرها من المجازر الوحشية، لايزال بلا محاسبة، ويرى المحامي ومستشار القانون وحقوق الإنسان، أويس الدبش، أن عدم قدرة المحاكم الأوروبية على محاسبة النظام السوري، يعود إلى كونها محاكم وطنية وقدرتها محدودة، إذ إن محاسبة أشخاص لديهم حصانة دبلوماسية يعتبر تعديًا على السيادة الوطنية للدول”.

وأشار الدبش إلى أنه إذا كان المتهمون بجرائم الكيماوي خارج الأراضي الفرنسية مثلًا، فإن محاسبتهم تتطلب أن يسلّموا أنفسهم للقضاء أو أن يسلّمهم النظام السوري، والخياران غير منطقيين في الوقت الراهن.

وفي الذكرى السابعة لمجزرة خان شيخون، جدد الدفاع المدني مطالبه بتحقيق العدالة لذوي الضحايا، وتشكيل محكمة استثنائية لمحاسبة نظام الأسد على جرائمه باستخدام السلاح الكيميائي المحرّم دوليًا، ضد المدنيين في خان شيخون ودوما والغوطتين، وفي كل مكان آخر طاله إجرام نظام الأسد، فالمحاسبة اليوم هي ضمان رادع للمستقبل.

وقال “الدفاع المدني” في بيان له، إن “الصباح المختنق بالسلاح الكيميائي، يوم حفر في قلوبنا مأساة وألمًا لا يمكن أن ينسى، لا يمكن للعالم أن ينسى مجزرة كيماوي الأسد في خان شيخون، وإن نسي فنذكّره نحن السوريون فهي لنا ذاكرة بحد ذاتها وليست ذكرى فقط”، مضيفًا، “سبع سنوات على المجزرة التي ارتكبها الأسد وما يزال طليقًا بلا محاسبة”.

وأفاد المتطوع في الدفاع المدني، عبد الحميد قطيني، أن “الدفاع المدني ذكر في تقارير منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، الجهود التي تم بذلها من قبلنا كمؤسسة بجمع العينات وتقديم الشهادات والمعلومات المفصلة عن حادثة كيماوي خان شيخون”، مشيرًا إلى أن “الخوذ البيضاء” تعاونت بشكل كبير مع الفرق التابعة لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية لجمع الأدلة.

كما أطلقت حملة “لا تخنقوا الحقيقة” بالتعاون مع “الدفاع المدني”، فعالية بعنوان “نتذكر ونقاوم” لإحياء الذكرى السابعة لمجزرة خان شيخون، وتتضمن معرضًا للوحات فنية تشكيلية لفنانين سوريين، إضافة لوقفة للمطالبة بتحقيق العدالة للضحايا وذويهم وبمحاسبة نظام الأسد على جرائمه الكيماوية بحق السوريين، وسيشارك في الفعالية في الفعالية ناجون وذوو ضحايا ومستجيبون أوائل وشهود على المجزرة.

ويرى نائب رئيس “رابطة ضحايا الأسلحة الكيماوية”، ثائر حجازي، أن الشكاوى التي تقدمها المنظمات الإنسانية واللجان الحقوقية والناشطين بحق الأسد وأعوانه، تسهم بأن يكون ملف الدعوى مكتملًا لحين صدور لائحة اتهام بحق بعض الأشخاص، كما تلعب تلك الشكاوى دورًا مهمًا بالمناصرة وإثبات أن النظام السوري استخدم سلاحًا محرمًا دوليًا ضد المدنيين، لكن وجود المشتبه بهم خارج الأراضي الأوروبية يجعل زمن الوصول إلى العدالة طويلًا”.

عبد الحميد اليوسف الذي فقد 25 شخصًا من عائلته بالهجوم الكيماوي على خان شيخون، مازال ينتظر محاسبة الأسد على جرائمه، لكنه يرى أن المجتمع الدولي خذل السوريين ولايزال يقف متفرجًا، ورغم ذلك يقول عبد الحميد، “لن نسكت عن حقنا وسنستمر في المطالبة بمحاسبة المجرمين ولن تبرد نارنا حتى نرى الأسد وأعوانه معلقين على حبال المشانق”.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة