قراءة في نتائج الانتخابات البلدية التركية الأخيرة

tag icon ع ع ع

غزوان قرنفل

تؤشر نتائج الانتخابات البلدية الأخيرة في تركيا إلى انحسار كبير في شعبية حزب “العدالة والتنمية” وحلفائه في تحالف “الجمهور” الحاكم، وتقدم ملحوظ وبارز لحزب “الشعب الجمهوري” أكبر أحزاب المعارضة التركية، الذي كان قد أعاد ترتيب بيته الداخلي إثر الخسارة التي مني بها مرشحه لرئاسة الجمهورية كمال كليتشدار أوغلو زعيم الحزب السابق.

بطبيعة الحال، ليست دلالة تلك النتائج مرتبطة فقط برغبة الناخبين في تغيير مسؤولي الحكم المحلي لمجرد التغيير فحسب بعد سنوات طويلة من سيطرة “العدالة والتنمية” على نسبة كبيرة من البلديات، بل هي بتقديري تعكس تبرّم الجمهور في المقام الأول من أوضاعه الاقتصادية المأزومة والمحمولة على تضخم رهيب وانخفاض مريع في قيمة الليرة التركية، وارتفاع صاروخي للأسعار أدى إلى انزياح شريحة كبيرة من السكان من الطبقة الوسطى وتهاويها نحو الطبقة الفقيرة، التي بالكاد تستطيع تأمين قوت يومها بحدوده الدنيا. وتعكس في المقام الثاني شعورًا بأن حزب “العدالة والتنمية”، الذي بالكاد تمكن مع الأحزاب المتحالفة معه من إيصال مرشحه للرئاسة وبجولة ثانية للانتخابات، قد استنفد فرصه تمامًا، ولم يعد لديه من جديد يقدمه بما يغري الجمهور من توكيد صلاحيته للحكم مجددًا.

صحيح أن البلديات لا ترسم السياسات الكبرى للدولة، لكنها عبر تقديم الخدمات بشكل يستجيب لتطلعات الجمهور واحتياجاته، والتماس اليومي مع الناس والدراية بأوضاعهم ومواجعهم، تعتبر مدرسة وميدانًا للمران على ممارسة الإدارة والحكم المحلي، بما يمهد السبل والطرق لتولي المناصب السياسية الكبرى في البرلمان والحكومة ومؤسسة الرئاسة. فالرئيس أردوغان نفسه تمكن من الوصول لرئاسة الحكومة قبل التحول نحو النظام الرئاسي بسبب شعبيته التي صنعها من خلال الإنجازات التي حققها إبان توليه رئاسة بلدية اسطنبول.

إذًا، هي رسالة من الشعب لحاكميه عبر صناديق الاقتراع تقول إنه ليس بالشعارات وحدها يحيا الإنسان، ومهما كان لديك من رصيد إنجازات فإنها تفقد قيمتها وبريقها أمام لهيب الأسعار وتعثر الاقتصاد وحالة العوز التي ولجها عدد لا بأس به من الناخبين، وإن جيلًا كاملًا من الشباب الذي ولد وعاش لم يرَ حكامًا جددًا له منذ ولد حتى الآن، وتلك التحولات المهمة والإنجازات البارزة كانت بين يديه ابتداء ولم تعد تهمه المقارنات بين تركيا وما كانت عليه قبل تولي حزب “العدالة والتنمية” الحكم وما صارت عليه في ظل حكم “العدالة والتنمية”، بل هو مهتم أكثر باختيار من يفترض أنه سيوفر له فرصًا أفضل وأكثر للعمل، ودخلًا ومستوى معيشيًا أفضل، وهذا ما فشل التحالف الحاكم بتوفيره، وخصوصًا في السنوات الأربع الأخيرة.

أعتقد أن عاملًا مهمًا آخر يمكن اعتباره من العوامل المساهمة بانفضاض قسم من الجمهور عن التصويت للتحالف الحاكم، وهو ما يمكن تسميته ببهلوانية السياسات في الكثير من الأحيان، والتقلب من النقيض إلى النقيض تمامًا في الكثير من الملفات الدولية، كالعلاقة مع السعودية والإمارات، ومع مصر، وفي الملف السوري، وملف شرقي البحر المتوسط، كل ذلك يدفع الجمهور ليسأل نفسه: إن كانت السياسة والخيارات السابقة صائبة فلا يتعين الاستدارة عنها، وإذا كانت السياسة والخيارات الجديدة صائبة فهذا يعني أن السلطة كانت تنتهج نهجًا خاطئًا تسبب في دفع أثمان مجانية لسياسات خاطئة، وهو ما يوجب في الحالتين مساءلتها عن ذلك، فلا يمكن منطقيًا أن تكون السياسات والقرارات المناقضة لبعضها في نفس الملفات صائبة في الحالتين.

ربما يكون من المبالغة القول إن عصر “العدالة والتنمية” في طريقه للأفول، لكني من المؤمنين بأن أي حزب لا يجري مراجعات وعمليات جراحة بالعمق تستجيب لتطورات المشهد السياسي العام وتطرح حلولًا لأزمة اقتصادية لا تزال البلاد تتخبط فيها، وتستولد وتؤهل جيلًا جديدًا من القادة يمكن أن يؤدي ذلك إلى غياب شمسه فعلًا، خصوصًا أن جميع قادته ورموزه التاريخية المؤسسة صارت خارج نطاقه، وأن طريقة عمله وإدارته الداخلية لم تتح حتى الآن ظهور رموز سياسية بارزة منه يمكن أن تملأ الفراغ فيه بعد أردوغان، هي واحدة من أبرز المثالب التي سيواجهها الحزب مستقبلًا، لا سيما مع بدء ظهور قوى وأحزاب جديدة وإثبات حضورها في المشهد السياسي، وأعتقد أن خروج هذا الحزب من السلطة وانتقاله لصفوف المعارضة بعد انتهاء ولايتي البرلمان والرئاسة الحاليين يعتبر فرصة لإجراء مراجعات حزبية وسياسية في العمق، ربما تتيح له مستقبلًا فرصة العودة إلى الحكم بكوادر ووجوه جديدة أولًا، وهي أيضًا فرصة للناس أن يجربوا خيارات أخرى لإدارة السلطة والدولة لم تختبرها أجيال تركيا الجديدة ثانيًا.

وهي أخيرًا فرصة لتعافي الديمقراطية والحياة السياسية والحزبية أكثر وربما السير نحو مستقبل تركيا برؤى جديدة ومختلفة لمختلف الملفات والقضايا الوطنية الداخلية، فضلًا عن السياسات الإقليمية والدولية.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة