برامج تقدم المال في رمضان.. “تريند” على حساب أوجاع السوريين

لقطة شاشة من برنامج "لعيونك" على تلفزيون "بلدنا"

camera iconلقطة شاشة من برنامج "لعيونك" على تلفزيون "بلدنا"

tag icon ع ع ع

عنب بلدي – جنى العيسى

عبر تسجيل مصور قد لا تتجاوز مدته خمس دقائق، يظهر رجل عجوز يحاول إدارة وجهه عن الكاميرا، يتضح من ملابسه وطريقة لفة “السلك” على وجهه، أو حتى من ملامح صوته، كآبة معيشته، وركضه الدؤوب خلف لقمة عيشه.

يسأله المقدم بكل “إنسانية”، ماذا تحتاج في الحياة؟ فيسكت ليس لغياب جوابه، إنما لعدم قدرته ربما على عد احتياجاته أمام الكاميرا، إذ لا يعرف من أين يبدأ، في ظل واقع معيشي متردٍّ ودخل لا يكفي لتغطية نفقات الأسرة الأساسية.

بعد دقائق من الحديث “المأساوي” حول أوضاعه المعيشية، يحصل الرجل على مبلغ يسدّ به ولو جزءًا بسيطًا من حجم احتياجاته.

يترك هذا النوع من البرامج التي ينشط عرضها في شهر رمضان خاصة تفاعلًا كبيرًا لدى الجمهور السوري، يتضح من حجم المشاهدات الذي يظهر على وسائل التواصل الاجتماعي، كما تواجه هذه البرامج انتقادات عدة انطلاقًا من اشتراط تحدث الشخص عن قصته الإنسانية، وليس انتهاء بإعطائه المال أمام مئات المتابعين ربما.

على اختلاف مناطق السيطرة

تعرض البرامج عبر منصات على وسائل التواصل الاجتماعي، إما لوسائل إعلام محلية أو ينشرها مقدموها عبر صفحاتهم العامة.

وتختلف جهة الإنتاج ومصدر التمويل باختلاف البرنامج، ففي رمضان الحالي، عرضت جريدة “الوطن” برنامج “فطورك علينا” برعاية شركة “سيريتل” للاتصالات.

كما قدّم الإعلامي المقيم في دمشق ماجد العجلاني هذا العام عبر منصاته الشخصية برنامج “بعد الفجر“، الذي تم بالتعاون مع “الأمانة السورية للتنمية”.

وعلى شاشة “تلفزيون سوريا” المعارض، يقدم مهدي كمخ برنامج “في أمل 2” بموسمه الرمضاني الثاني هذا العام، ويجري فيه لقاءات مع مقيمين في مناطق شمال غربي سوريا حيث تسيطر المعارضة.

وعبر منصات “تلفزيون بلدنا”، يقدم عبد الله العمر برنامج “لعيونك“، حيث يغطي أيضًا مناطق شمال غربي سوريا.

حاجة مغلّفة بـ”الإهانة”

هدى (29 عامًا) خريجة جامعية تعمل في مجال البرمجة، قالت لعنب بلدي، إنها ليست مع هذا النوع من البرامج أبدًا، حتى لو كان هدفها إيصال أوجاع وهموم الناس، معتبرة أن فيها “إهانة كبيرة”، وليست طريقة صحيحة للحصول على الأموال، فبالإمكان توزيعها بشكل مخفي وبوجود أدلة ملموسة، أي تصوير المقطع وإرساله لصاحب التبرع، دون تحويل الأمر إلى برنامج.

وترى هدى هذا النوع من البرامج فرصة ووسيلة لتحقيق الشهرة للمقدمين الذين وجدوها طريقة لـ”تبييض الوجه” أمام أصحاب الثروات، باسم العمل الإنساني، وفق رأيها.

وتتفق هدى مع دريد (48 عامًا) موظف حكومي يقيم في مدينة اللاذقية، الذي اعتبر أن هذه البرامج مسيئة للناس، إلا أنها في هذا الوضع مطلوبة، مشيرًا إلى أن “الجميع نسي الفقراء ولا يكفي التنظير والقول إنها برامج مهينة طالما لا أحد يقدم لهم البديل”، وفق تعبيره.

 

نعم، هذه البرامج فيها إهانة للشخص، لكن بنفس الوقت هي طريقة جيدة للحصول على الأموال، وشخصيًا أتمنى لو أصادف أحد أولئك المقدمين، لأحصل على مبلغ عابر يمكن خلاله تأمين كثير من الأشياء التي نفتقدها، يعني على مبدأ “مبلغ من غامض علمه”.

دريد

موظف حكومي

 

بينما اعتبرت هند (46 عامًا)، وهي مهندسة تقيم في مدينة اللاذقية، أن هذه البرامج ليس فيها إهانة للشخص المستفيد فحسب، بل هي إهانة للدولة، لافتة إلى أن حاجة الناس أكبر من مجرد حصولهم على “كم ألف ليرة بالشارع”.

ويرى يوسف (28 عامًا)، مزارع من سكان ريف درعا جنوبي سوريا، أن من يريد المساعدة لا يشهّر في قصص البسطاء، ويطلب منهم التصوير مقابل تسليمهم المال، بالنهاية هناك ضرر معنوي يؤثر على الشخص عند عرض قصته مقابل مساعدته.

 

هناك الكثير ممن أعرفهم يرفضون التصوير رغم حاجتهم للمبلغ، كما أن هناك بعض النساء يقبلن الظهور بعد لباس الخمار أو اللثام على الوجه من أجل عدم معرفتهن.

يوسف

مزارع من ريف درعا

 

“تريند” بصبغة إنسانية

الباحثة في العلوم الاجتماعية الحاصلة على إجازة الدكتوراة في الإعلام هلا الملاح، قالت لعنب بلدي، إن هذا النوع من البرامج موجود أساسًا على الشاشة السورية، ولكن هذه البرامج كانت تحمل طابعًا جديًا، ويطرح من خلالها المقدم أسئلة ثقافية تعليمية توعوية على المارين في الشوارع، ويحصلون لقاء إجابتهم على مبالغ على شكل هدايا.

كانت البرامج سابقًا تخلق نوعًا من التحدي بين الأشخاص الذين تجري استضافتهم في الشوارع، بسبب نوعية الأسئلة القوية والعصف الذهني مع المقدم الذي قد يكون على درجة عالية من الثقافة، وفي نفس الوقت سينتهي اللقاء بتقديم هدية مالية بأسلوب راقٍ، بحسب الملاح.

بينما انتقل هذا النوع من البرامج إلى مستوى “السذاجة” حاليًا، وفق ما ترى الملاح، مشيرة إلى أن ذلك جاء نتيجة انتشار هذا المحتوى على وسائل التواصل الاجتماعي، إذ لا ضوابط إعلامية تحكمه.

ومن مبررات انتشار البرامج الوضع الاقتصادي المتردي من جهة، ورغبة صناع المحتوى أو “الإعلاميين” من مقدمي هذه البرامج بتحقيق الشهرة عبر استغلال حاجة الناس وصناعة “تريند” من قصص الناس الإنسانية المؤثرة من جهة ثانية.

وترى هلا الملاح أن هذا النوع من البرامج مرغوب ومتابع من قبل الجمهور، لما يحمله من مشاعر إنسانية وعاطفية، وقصص واقعية، لكن بشرط أن يحترم الضيوف وأصحاب القصص الإنسانية، ويقدم بشكل وأسلوب وإنساني دون استعلاء أو تكبر، ودون وضع صاحب الحاجة بمكان يتعرض فيه للذل والإهانة.

برامج تفضح الواقع

قد تكون مثل هذه البرامج جيدة وفق ما ترى الباحثة في مركز “حرمون للدراسات المعاصرة” ماسة الموصلي، لأنها تفضح الأوضاع “اللاإنسانية” التي يعيشها المواطن السوري، ومدى الفقر والعوز الذي وصل إليه، ولكن قطعًا هنالك طرق لإخراجها بشكل محترم وإنساني أيضًا، وهذا أمر لا يمنع من الوصول إلى مرحلة “التريند” سواء للبرنامج أو للإعلامي القائم عليه.

الباحثة الموصلي أكدت في حديث إلى عنب بلدي أن هذه البرامج ليست جديدة، وهي موجودة من قبل وجود وسائل التواصل الاجتماعي على شكل برامج ترفيهية في شهر رمضان، لكنها نشطت مجددًا في الحالة السورية اليوم مع تدهور الحياة المعيشية، ووصول النسبة الكبرى من المواطنين إلى ما دون خط الفقر والعوز المادي، ومن ثم استغلال حاجتهم للمال أو لسلة غذائية مقابل الظهور بتلك البرامج وإن برضاهم.

وترى الموصلي أن هذا النوع من البرامج من الناحية الاجتماعية “مؤسف” لعدة أسباب، منها أن مد يد العون لشخص فقير أو أسرة فقيرة يجب أن يكون بشهر رمضان وبغيره.

وأضافت أنه لو كان الهدف الأول منها عملًا خيريًا حقًا، ومن ثم تسليط الضوء على الأوضاع المعيشية للناس، فبالإمكان إجراء الحديث بالصوت فقط مع تصوير محيط المقابلة، سواء كان سوقًا أو أي شارع دون تصوير الشخص المجيب ودون سؤاله عن اسمه الكامل، وإذا كان لا بد من الصورة الموجهة فيتم تمويه الوجه دون السؤال عن الاسم.

 

تعد هذه البرامج مؤثرة عاطفيًا على المشاهد ولكن فقط خلال المشاهدة، إذ لا أثر لها على المجتمع، فلا أظنها مثلًا ستزيد من أعداد فاعلي الخير والمتصدقين، وما يلزم المجتمع هو وجود جمعيات مجتمع مدني تساعد الناس وتدعم الحالات الإنسانية سواء علاجات طبية، أو غذاء، أو تعليم، وغير ذلك.

 ماسة الموصلي

باحثة في مركز “حرمون للدراسات المعاصرة”

 

16.7 مليون شخص بحاجة إلى مساعدة

في سوريا، يحتاج 16.7 مليون شخص إلى المساعدة الإنسانية، بزيادة قدرها 9% على عام 2023، وفق تقديرات المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة.

وذكرت المفوضية أن عام 2024 يدل على أن المؤشرات الإنسانية والاقتصادية في البلاد مستمرة في التدهور، وأن الوضع الاقتصادي “خطير على نحو متزايد”، ويشكل محركًا رئيسًا للاحتياجات.

ويحتاج 80% من السكان السوريين إلى شكل من أشكال المساعدة الإنسانية في عام 2024، وفقًا لنظرة عامة على الاحتياجات الإنسانية لعام 2024 (HNO).

ويعاني نحو 55% من السكان في سوريا أو 12.9 مليون شخص من انعدام الأمن الغذائي، منهم 3.1 مليون يعانون بشدة من انعدام الأمن الغذائي.

ويلجأ معظم السوريين إلى الاعتماد على أكثر من مصدر لمحاولة الموازنة بين الدخل والمصاريف، وأبرز تلك المصادر الحوالات المالية من مغتربين خارج سوريا، والاعتماد على أعمال ثانية، كما تستغني عائلات عن أساسيات في حياتها لتخفيض معدل إنفاقها.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة