تحت ضغط الحاجة

المجتمع السوري يتجاوز وصمة ألبسة “البالة”

سوق البالة بحي الإطفائية في دمشق- 3 من شباط 2024 (عنب بلدي/ سارة الأحمد)

camera iconسوق البالة بحي الإطفائية في دمشق- 3 من شباط 2024 (عنب بلدي/ سارة الأحمد)

tag icon ع ع ع

عنب بلدي – نور الحاج

“كنت إخجل قول إنو هالتياب من البالة، ما عاد تفرق، الكل عم يلبس من البالة، كلنا منعرف حتى لو ما حكوها”، قال عبد المعين وهو شاب ثلاثيني، معبرًا عن تغير النظرة تجاه شراء الألبسة المستعملة (البالة)، التي كانت بمنزلة الوصمة بالنسبة لبعض الطبقات الاجتماعية.

تغير الحال ليس فقط بالنسبة للشاب الثلاثيني عبد المعين، إذ قالت الفتاتان لمى وسوريا، إن “البالة” باتت المصدر الأساسي للباسهما، جراء غلاء الأسعار وسوء الظروف المعيشية.

وتشهد الأسواق في كل المحافظات السورية، اليوم، انتشار محال “البالة”، التي تعرض الألبسة والأحذية الصيفية والشتوية، ويغلب عليها الأوروبي كما هو شائع.

“البالة” هي حزم من الألبسة المستعملة التي تجمع بعد تصنيفها وغسلها ومرورها بمراحل من التعقيم والترتيب والفرز، لتطرح بعدها في الأسواق للبيع، أو يتم تصديرها بأسعار رخيصة من دول يرتفع فيها دخل المواطن، أو تشهد ازدهارًا اقتصاديًا، وهناك من “البالة” ما هو غير مستعمل من البضائع التي انتهت “موضتها” أو المخزنة والتي كسدت في الأسواق.

النظرة تغيرت

“قبل الحرب، ما كنت مضطر إلبس من البالة، كانت الصناعة المحلية جيدة ورخيصة، وبتأمن خيارات لكل الطبقات”، قال عبد المعين المحمد، المهجر من منطقة سهل الغاب في مدينة حماة إلى المخيم الكويتي بقرية حربنوش، شمالي مدينة إدلب.

وأضاف أن محال “البالة” لم تكن بهذا الانتشار سابقًا، معللًا سبب تحوله لشراء الملابس المستعملة بغلاء أسعار الجديدة سواء المستوردة أو حتى المحلية، وقال إنه ما عادت تعنيه الجودة، ولا حتى نظرة الناس.

أما سوريا الخالد (28 عامًا) فقالت، إنها قبل الحرب كانت لا ترتدي سوى الملابس الجديدة الوطنية، لكن بعد ظروف الحرب والنزوح، صار التوفير أولوية، “حتى وإن كنت أكره مجرد فكرة أن أحدهم وضع هذه الملابس على جسده قبلي”.

سوريا التي تعيش في أحد مخيمات ريف إدلب الشمالي، أشارت إلى “سخرية البعض” في الماضي ممن يلبس “البالة”، لكن “الظروف فرضت علينا الكثير مما نكره، والمهم هو الستر”.

كانت الفتيات يشعرن بخجل ربما أكبر من الشبان، ويتجنبن إخبار الآخرين بأن ملابسهن من “البالة”، برأي لمى، وهي فتاة من اللاذقية شارفت على الـ30 من عمرها.

اعتادت لمى منذ مراهقتها شراء أمها للملابس المستعملة لها ولإخوتها، عندما كانت أسعارها رخيصة الثمن، ولم تكن تخبر صديقاتها، لأن النظرة دائمًا كانت أن الفقير والمحتاج هو من يشتري من مراكز الألبسة المستعملة.

عندما كانت صديقاتي يلححن عليّ بالسؤال لأدلهنّ على المتجر الذي اشتريت منه، كنت أتهرب وأخبرهنّ بأنها هدية وصلتني من محافظة أخرى أو حتى من أحد الأقارب خارج البلد، قالت لمى.

تعمل لمى في مكتبة بالقرب من جامعة “تشرين” في مدينة اللاذقية، وقالت إن الملابس المستعملة أصبحت غير محرجة، بل على العكس أحيانًا، فقد تغدو مدعاة للتباهي.

 

عندما كانت صديقاتي يلححن عليّ بالسؤال لأدلهنّ على المتجر الذي اشتريت منه، كنت أتهرب وأخبرهنّ بأنها هدية وصلتني من محافظة أخرى أو حتى من أحد الأقارب خارج البلد.

لمى

فتاة من اللاذقية

 

تردي الأوضاع الاقتصادية

دفع العامل الاقتصادي باتجاه تغيير النظرة حيال اقتناء “البالة”، أو تخفيف سلبيتها، ويفسر متخصصون اجتماعيون ذلك بتأثير العامل الاقتصادي، والحاجة وترتيب الأولويات.

برأي الباحثة الاجتماعية عائشة عبد الملك، فإن الأوضاع الاقتصادية للأفراد والتغيرات التي تطرأ عليها بعد الحرب، كفيلة بإحداث هذا التغيير في النظرة، وفي الأحكام التي لطالما ارتبطت سابقًا بشراء الملابس المستعملة، وبالتالي تغيير في السلوك والإقبال، فالحال في الوفرة ليس كما هو في الشدة.

وقالت عبد الملك، إنه مع خسارة الكثير من السوريين لعملهم أو اضطرارهم لتغييره في كل فترة، ومع خروجهم من منازلهم واستئجار منازل في محافظات أخرى، أو في بلدان اللجوء، أو في المخيمات، خلق هذا الواقع حاجات جديدة، لعلها أكثر إلحاحًا في تأمين المسكن والغذاء والدواء، فكان لا بد من إعادة ترتيب للأولويات، مع مراعاة التناسب بين الإنفاق والمدخول، وبدأ البحث في شتى مجالات الحياة عن بدائل تناسب الوضع الجديد.

ومع هذا الرأي يتفق الدكتور في العلوم المالية والمصرفية فراس شعبو، حيث يعتبر أن الوضع العام عقب الحرب، والاقتصادي بشكل أساسي، أسهم بارتفاع أسعار الملابس الجديدة، والإقبال على الملابس المستعملة كبديل أوفر، تحديدًا عندما تضاءل دخل الفرد.

يضرب شعبو مثلًا بالتغير الذي طرأ على المائدة السورية بعد الحرب، إذ كانت متنوعة عند كل وجبة، وبعدها، بدأ الناس بحذف الكثير من المواد الغذائية التي كانت أساسية، وصاروا يتعاملون معها باعتبارها كماليات.

وكذا هو الحال في موضوع الملابس، إذ تغير توجه الكثير من الأشخاص، فمن كان مثلًا معتادًا على شراء الأوروبية أو الماركات العالمية الشهيرة، استبدلها بالمحلية، أو ربما بالأجنبية لكن المستعملة وليس الجديدة، ومن تعود على شراء المحلي الجديد، تدرج في مستوى الجودة، من “النخب” الأول إلى الثاني أو الثالث أو الأدنى، ومن الناس من غدت حتى تلك المحلية الجديدة متدنية الجودة مكلفة بالنسبة لهم، فوجدوا في الملابس المستعملة ضالتهم الأنسب.

شرائح “البالة”.. شرائح المجتمع

أكدت لمى أن هناك “بالة خمس نجوم”، وأنها باتت مستويات، وبعضها من الوطني المستعمل، والبائع يعرف الزبون ومستواه ويفصل البضاعة الغالية شبه الجديدة للزبون الأغنى الذي يدفع.

وتابعت أن محال الألبسة المستعملة في أحياء اللاذقية ومنها الزراعة والمشروع السابع وشارع الجمهورية وهنانو، كلها تعني أن البضاعة أوروبية، أو على الأقل عالية الجودة، و”عالموضة” وغالية الثمن، بينما “بالة” أوغاريت الشعبية “لا تزال وصمة عار تقريبًا”، ويتجنب الجميع القول إنهم اشتروا منها بمن فيهم أنا.

تطرقت الباحثة الاجتماعية عائشة عبد الملك إلى اتساع جمهور “البالة”، وانتشار الإقبال على شراء الملابس المستعملة بين شرائح المجتمع المختلفة، حتى تلك التي كانت تزدري رواد “البالة” التقليديين من ذوي الدخل المحدود، وأشارت إلى تبدل النظرة الدونية تجاه الملابس المستعملة من قبل ذوي الدخل المتوسط أو الجيد.

وتابعت أنه عندما ينتشر أي شيء ويغدو سلوكًا شبه جمعي، يتحرر من الوصمة، فالأغلبية باتوا يتوجهون لسوق الملابس المستعملة، وهو ما كسر تلك الأحكام التنميطية.

 

عندما ينتشر أي شيء ويغدو سلوكًا شبه جمعي، يتحرر من الوصمة، فالأغلبية باتوا يتوجهون لسوق الملابس المستعملة، وهو ما كسر تلك الأحكام التنميطية.

عائشة عبد الملك

باحثة اجتماعية

 

قالت عبد الملك، سابقًا، كان يعتقد الكثيرون أن اقتناء الملابس المستعملة يقتصر على العائلات الأقل دخلًا وأشد فقرًا، بيد أنه في الخفاء لم يكن كذلك، إذ كانت أسواق ومحال الألبسة المستعملة تشهد إقبالًا من مختلف شرائح المجتمع، فكان الأثرياء وما زالوا يرتادون هذه الأسواق لاقتناء قطع أوروبية مستعملة أشبه بالجديدة بأسعار أقل.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة