جريمة الكيماوي وآثارها

tag icon ع ع ع

لمى قنوت

في يوم الجريمة، كانت أدوار الناس متداخلة ومؤلمة ومصحوبة بهلع وصدمة نفسية، من الإنقاذ إلى الإسعاف والمساعدة، فقد أصيب الجميع بالكيماوي مباشرة أو نتيجة الملامسة أو عبر الاستنشاق المتكرر، ومن أَنقذَ أُصيب، ومن أَسعفت أُصيبت، ومن كان يبحث عن أهله أصبح مساعدًا ومنقذًا، هذه ومضات من حال الضحايا/الناجين التي نقب فيها وحللها من عدسة نسوية تقاطعية، بحث صادر عن منظمة “النساء الآن للتنمية” بعنوان “الجريمة المستمرة“، تناول سياقات جريمة استخدام النظام البائد وقواته للأسلحة الكيماوية، حين استهدف أهالي الغوطة الغربية حوالي الساعة الخامسة صباحًا، وسكان الغوطة الشرقية في منطقتي زملكا وعين ترما حوالي الثانية صباحًا في 21 من آب 2013، وركز البحث على سياقات الغوطة الشرقية والمناطق المعنية بإنقاذ المصابين، نساء ورجالًا.

من موقعيات مختلفة، وتجارب شخصية بيَّنَ البحث الأثر الجندري للجريمة على 10 ناجيات و10 ناجين، منهم مسعفون ومسعفات في النقاط الطبية، وأربعة منقذين، وسد فجوة معرفية على أثرها المباشر وغير المباشر على النساء والفتيات، وسط واقع تمييزي بنيوي مستدام، سياسي وقانوني واجتماعي واقتصادي يُغلِف حيواتهن، وافتقار تام لبرامج تعنى بالناجين والناجيات، صحيًا ونفسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، وغياب للعدالة الانتقالية، حتى الآن، من أجل جبر الضرر الذي لحق بهم وبأطفالهم، ومحاسبة كل من شارك وخطط لهذه الجريمة، التي أراد النظام البائد محوها عبر نبش القبور وتدميرها وملاحقة الشهود، نساء ورجالًا، وخاصة أنها جريمة ضمن طيف واسع من الجرائم الممتدة، منذ أن ثار الأهالي ضده في عام 2011، فنالهم عقاب جماعي بهدف ردعهم وترهيبهم وإهلاكهم وخلق صدمة عابرة للأجيال، وتهجير قسري لمن نجا منهم في آذار 2018.

الأثر الجندري للجريمة على النساء

يتناول البحث تاريخية العقاب الجماعي مع المظاهرات السلمية، بقطع التيار الكهربائي والإنترنت والخدمات الرئيسة ونشر الحواجز، وفي نهاية الشهر العاشر عام 2012، وبعد إعلان الفصائل المسلحة “معركة تحرير دمشق”، حاصر النظام المنطقة ومنع السكان من مغادرتها والهرب من القصف المدفعي والجوي اليومي وظروف الحصار اللاإنساني. ومع تشديد الحصار بعد مجزرة الكيماوي بشهرين لجأ الناس إلى الحلول البديلة، ما ألقى أعباء إضافية على الأدوار الرعائية للنساء مصحوبة بأبعاد طبقية، فمثلًا صار الطحين من العلف والشعير، واستُعيض بالحطب للطبخ وتسخين المياه للاستحمام. صحيًا، مع استهداف المراكز والنقاط الطبية وقتل واعتقال وإخفاء قسري للكوادر الطبية ومغادرة الكثيرين منهم، كانت نسبة النساء هي الأقل، وبضمنهم الطبيبات المختصات بأمراض النساء، الأمر الذي أدى إلى انعكاسات صحية سلبية على النساء في ظل مجتمع محافظ.

تؤكد “بيسان” (اسم مستعار)، وهي مسعفة، أن رفض الرجال معالجة الأطباء للنساء من عوائلهن كان متكررًا، حتى في الحالات الإسعافية الحرجة، مثل بتر أطراف أصيبت بشظايا، وتم تهديد بعض الأطباء الرجال بالسلاح إن اقتربوا من المصابات، وعزت “بيسان” أسباب الأعداد القليلة من الممرضات في المنطقة، إلى خوف الأهالي على بناتهن من الخروج إلى الشارع في مناطق تشهد قصفًا يوميًا، إذ يتطلب هذا النوع من العمل البقاء لساعات طويلة، والخروج في أي وقت لإسعاف الحالات الطارئة. بعد أسبوعين من الاستهداف الكيماوي لمنطقة عدرا، واستهداف عبوة ناسفة مليئة بالغازات على حي عبد الرؤوف في منطقة المساكن بمدينة دوما في 5 من آب، والتي أدت إلى إصابة 400 شخص، نفذ النظام السابق جريمته التالية في ليل 21 من آب والناس نيام، ومعظم النوافذ إما مكسورة أو مفتوحة في أجواء طقس حار، ومع غياب للخدمات الأساسية، وكادر طبي منهك ومجتمع محاصر، ووسط انتشار إجراءات خاطئة زادت من حدة الإصابات، ماتت عوائل بأكملها وهم نيام وخاصة من يسكنون في الطوابق السفلية، أما من صعد إلى الأسطح فقد عاد ونزل هربًا من القصف الجوي والبري الذي تلا ضرب السكان بعد استهدافهم بغاز السارين في عين ترما وزملكا، وخاصة أن المنطقة الأخيرة لم يكن يوجد فيها نقطة طبية أو دفاع مدني.

يؤكد البحث أن إسعاف وإنقاذ النساء المصابات بالغازات الكيماوية كان صعبًا ومعقدًا في مجتمع محافظ، إذ كان يتطلب تجريدهن من ملابسهن ورشهن بالماء في مساحات مفتوحة، أسوة بالمصابين من الرجال، ومع الحر الشديد كان اقتحام المنازل لإسعافهن وعوائلهن من الأمور التي صَعّبت من إنقاذهن، إضافة إلى عدم وجود منقذات آنذاك، بسبب عشوائية ساعات العمل، وخطورته، إضافة إلى أن إنقاذ مَن تحت الأنقاض يحتاج إلى جهد عضلي، وعلاوة على ذلك، فإن المنطقة غير معتادة على مشاركتهن في مثل تلك الأدوار، لكن بعض المنقذين أشاروا بأنه لم يكن هناك تمييز لحظة إخلائهن من البيوت، فقد وُضع الجميع، نساء ورجالًا، في سيارات إسعاف لأخذهم إلى أقرب نقطة طبية، وبعض النساء الصاحيات تم رشهن بالماء، وهن مرتديات ملابسهن، وطُلب منهن الانتظار في مداخل الأبنية ريثما تحضر سيارات إسعاف يوجد في طواقمها نساء. وبرأي “بيسان”، فإن عدم نزع ملابس المصابات قبل الرش بالماء زاد من نسبة إصابتهن، الأمر الذي أدى إلى إصابة المسعفات أيضًا عن طريق لمس ملابس المصابات، كما حصل معها، مما أثر سلبًا على نسبة الناجيات.

“إنه يوم القيامة”، هكذا وصف الناجون والناجيات يوم 21 من آب، حين كان الموت جماعيًا، والناس يختنقون، والزبد يخرج من الأفواه، ويتساقط الكثير من الرجال في الشوارع بعد أن هبوا للمساعدة والإنقاذ، أما أغلبية النساء فكنّ في البيوت، وخاصة في اللحظات الأولى من الجريمة، “ينتظرن أن يأخذ الرجال قرارًا”، فالخروج بمفردهن ليلًا من المنزل كان أمرًا غير اعتيادي، وبنفس الوقت، هممن بإسعاف أنفسهن وعوائلهن باستخدام المناشف المبللة وقطرات العين واستنشاق البصل، وبعض النساء أسعفن عوائلهن البعيدة واستجبن لنداءات الجوامع.

بحث يحمل في طياته أصواتًا شجاعة، خنقها وأحبتها الكيماوي، وخنقها الخذلان والاضطهاد والظلم وانعدام العدل، تنوء ذاكرة أصحابها بلحظات أليمة، مصدومة من هول الجريمة، وسنوات من العقاب الجماعي، حصارًا وتجويعًا وقتلًا بكل الأسلحة، عوائل ماتت في أسِرتها، ونساء كان يمكن إنقاذهن لولا “العيب المجتمعي” الذي كبّل المنقذين، وما زال بعضهم يعيشون أسرى الشعور بالذنب تجاه إنقاذ النساء في تلك الليلة، وهو يشير إلى الأثر غير المتناسب للنزاعات على النساء والتمييز ضدهن حتى وهن على مشارف الموت. وبينما ينتظر الناجون والناجيات العدالة والإنصاف، ما زال المجرمون الذين أمروا وخططوا ونفذوا لجميع تلك الجرائم طلقاء.



مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة