لا تجعلوا الدولة غنيمة
غزوان قرنفل
ربما ما نقوله أو ما نكتبه وما نصرح به لم يعد محفزًا أو ذا تأثير على العقول المسعورة، والمسكونة بهواجس وأفكار أقل ما يقال فيها إنها محض عفن فكري عشش طويلًا في كهوف رؤوس خاوية من المادة والتلافيف الدماغية اللازمة لإعقال الأمور والمواقف.
كما في صحن المسجد الأموي قطعان بشرية ترغي وتزبد وتسعّر الشحن المذهبي، كذلك على وسائل التواصل الاجتماعي بالكاد تجد مساحة للعقل، وبالكاد أيضًا تقرأ سطورًا يحاول كاتبوها أن يطفئوا نيران الكراهية التي تنضح بها آلاف الصفحات والمنشورات، ولكن هيهات.
قضية حصرية السلاح بيد الدولة تبدو هي العنوان الذي تحاول أن تتلطى به السلطة لتكسب مشروعية الإخضاع والامتثال، وهو حقًا عنوان مضلل، وقول حق يراد به باطل، ذلك أنه حتى الآن ليس ثمة دولة حقًا يمكن الركون إليها ليتم تسليم السلاح لها.
فالسلطة الحالية لا تتعامل ولا تشتغل على بناء دولة، وهي لا تزال تتصرف في هذا الشأن على أن الدولة مجرد غنيمة انتزعتها من خصومها في آخر غزوة لها، وبالتالي هي تملك حقًا حصريًا في التصرف بها كما ترى وتشاء، وعلى الرعية الطاعة والامتثال.
هذا المنطق لا يبني دولة، ولا يؤسس لشراكة وطنية هي أحد أهم أسس وشروط بناء دولة عصرية، بل هي أحد أهم شروط الحفاظ على الرابطة الوطنية التي تحافظ على جغرافيا الدولة من الزلازل والتصدعات، والأهم أن شرعية الدولة نفسها باتت تعتمد اليوم على مدى حيادها تجاه كافة مكوناتها المجتمعية والدينية، لا على مجرد تمثيلها لفئة من شعبها حتى لو كانت تلك الفئة هي الأكثرية العددية لهذا الشعب.
وبالتالي فعندما تقصي المجتمع بكافة تلاوينه ومكوناته عن المساهمة في التأسيس للشراكة الوطنية الحقة وتستأثر وحيدًا بالسلطة، وتحاول التدجيل على الناس بمؤتمر حوار لم تحاور فيه أحدًا سوى أنصارك ومناصريك، وتدبج دستورًا تحشر فيه السلطة بين يديك وتحت إبطيك وفي جوف نعليك، فهذا مسلك لا ينبئ بخير ولا يبعث أملًا في أنك تسير نحو تغيير مرتجى أسهم كل السوريين في دفع مستحقاته طوال عقد ونصف، فكيف عندما تزعم أنك الدولة التي يجب على السوريين الركون إليها والشعور بالطمأنينة تجاهها وأنت تعمل بدأب على تطييف الدولة ومؤسساتها.
حصرية السلاح بيد الدولة كلام سليم تمامًا والجميع يسلم به، ولكن بعد أن يتفق الجميع على شكل ومحتوى وتوجهات هذه الدولة، وبالتالي فإن المدخل الصحيح لتفكيك كل الأزمات الأخرى هو ابتداء الدخول في حوار وطني جدي وحقيقي يتم التوافق فيه على شكل الدولة ودورها وآلية تشكيل مؤسسات السلطة فيها وحدود صلاحيات تلك المؤسسات وحياديتها، وصياغة ذلك في وثيقة دستورية يرى كل سوري مهما كانت عقيدته أو قوميته أو مذهبه نفسه وحقوقه فيها لتشكل عهدًا وطنيًا بين كل السوريين، أن تكون سوريا وطنًا موحدًا وجامعًا لهم جميعًا، وأما خلاف ذلك وإذا ما بقيت السلطة الحالية تعتقد أن الدولة السورية غنيمتها ولا شراكة لأحد فيها فنحن ذاهبون جميعًا، لا قدر الله، إلى احتراب لا هوادة فيه وحمام دم يجعل سوريا نفسها أثرًا بعد عين.
ما حصل ويحصل من أحداث مؤلمة يوجب على السلطة، بوصفها المسؤولة عن أمن الناس وأمانهم، جملة من الاستحقاقات التي لا مفر من مواجهتها والاستجابة لموجباتها، وفي مقدمتها محاربة خطاب التخوين والتجييش ضد المكونات السورية الأخرى والكف عن شيطنتها، لأن ذلك يهيئ بيئة خصبة للفوضى والاحتراب، والنظر إلى كل السوريين بعين وميزان واحد هو المواطنة لا الدين ولا الطائفة، وأما المخطئون والمتجاوزون على القانون وحقوق الناس والمسلحون المتفلتون من الضوابط والروابط والمستسلمون لسعارهم الديني والطائفي ولسلفيتهم المريضة والساعون إلى الخراب، فيد العدالة أولى بهم دون أن تؤخذ طوائفهم بجريرة أفعالهم، فالعدالة هي المدخل إلى الاستقرار والطمأنينة المجتمعية.
عندما نؤمن جميعًا بأن سوريا ليست غنيمة، وأن إدارة الدولة لا تستقيم بمنطق الغلبة، وأن إخراج المجتمع من مستنقع الهويات والانتماءات ما دون الوطنية ودفعه إلى فضاء المواطنة المتساوية، يستلزم اعترافًا بالتنوع وامتثالًا لمترتبات هذا التنوع عبر الشراكة الوطنية، عندها أزعم أننا سنكون على عتبات التعافي، وتلك تمامًا هي مسؤولية السلطة الجديدة.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :