الشاب أحمد وزوجته ميرا في مدينة حمص - 9 أيار 2025 (أبو بكر السقا/ فيس بوك)
تعززه الهشاشة المجتمعية وغياب الثقة
روايات مغلوطة تخلق انقسامًا بين السوريين
عنب بلدي – حسن إبراهيم
خلقت قضية الشابة السورية ميرا ثابات حالة جدل وانقسام في الشارع السوري، بعد تداول أخبار عن وقوعها ضحية “اختطاف وسبي وزواج قسري”، قبل أن تنفي الفتاة وزوجها أحمد هذه المزاعم، في مدينة حمص وسط سوريا.
ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بحالة من “التضامن المتسرع” المدفوع بعضه بالحرص والخوف والبحث عن الحقيقة، في حين كانت منشورات أخرى تخلق حالة من “التجييش” وتعزيز سردية ورواية “سبي النساء” في سوريا.
ميرا وأحمد ظهرا خلال بث مباشر أجراه معهما الصحفي والباحث عمر منيب إدلبي، عبر صفحته في “فيس بوك”، في 9 من أيار الحالي، وأكدا أن علاقة حب جمعتهما قبل سقوط النظام السابق، وقررا الزواج ووضع عائلتيهما تحت “الأمر الواقع”، بعد رفض العائلتين ارتباطهما لعدة مرات بسبب اختلاف الطائفة، ونفيا جميع مزاعم الاختطاف والزواج القسري.
حالة ميرا وأحمد تتشابه مع عشرات الحالات والحوادث التي لقيت تفاعلًا من السوريين، وتضامنًا مع سرديات كانت بعضها بعيدة عن الصحة، وخلقت حالة انقسام مجتمعي، عززها تأخر التحقق من المعلومات، ووجود بيئة خصبة تتضخم فيها الاتهامات على أساس ديني وطائفي.
“استقطاب سياسي”
ذهب بعض أصحاب المنشورات من صحفيين وإعلاميين ومؤثرين وفنانين إلى تحليل لغة الجسد واعتبار ميرا أنها “مجبورة وخائفة” استنادًا إلى صور لها، وبعضهم اعتبر أن الملابس التي ظهرت فيها الشابة تعيد للأذهان زيًا مرتبطًا بتنظيم “الدولة الإسلامية”، وغيره من المجموعات الجهادية المتشددة، وبعضهم تحدث عن وجود كدمات أو آثار ضرب على وجه الشابة.
مدير منصة “تأكد”، الصحفي أحمد بريمو، قال لعنب بلدي، إن قضية الفتاة ميرا أحدث الأمثلة عن استخدام القضايا المحقة في الدعاية السياسية والاستقطاب السياسي سوريا، من قبل الرافضين للسلطة الجديدة في سوريا، وهم عدة أطراف بعضها لا يمكن إنكار ارتباطه بالنظام المخلوع، وبعضها يرفض هذه السلطة لأسباب أيديولوجية دينية.
وذكر أن أطرافًا عديدة ربما تعاطفت مع ميرا بسبب وجود أو معرفة بأن هناك انتهاكات تحدث في سوريا، ومضايقات تعدّت التدخل بالحياة العامة ووصلت إلى حد الخطف والقتل.
ويرى بريمو أن ما حدث مع ميرا له نتائج سلبية، إذ يخشى أن يستخدم الأمر للتشكيك أو لإنكار أي عملية خطف تجري في سوريا في وقت لاحق، أو حتى جرت في وقت سابق، مضيفًا أنه لا يمكن أخذ حادثة ميرا كمثال للقياس عليه حول كل ما يتعلق بجرائم الخطف التي تحدث في سوريا خاصة للنساء.
ولفت بريمو إلى أن جرائم الخطف سابقة ومتكررة منذ سنوات طويلة، إما لأسباب متعلقة برفض الأهل تزويج بناتهم لشبان من أديان وطوائف ثانية، أو لأسباب اقتصادية تتعلق بابتزاز أشخاص لذوي الفتيات من أجل الحصول على أموال.
واعتبر بريمو أن التعاطف مع مثل هذه الحوادث أمر طبيعي جدًا، خاصة بالنسبة لمناصري حقوق المرأة، وهناك شريحة واسعة من السوريين تُقر بأن المجتمع السوري يعاني من مشكلات كثيرة من بينها ظلم المرأة وعدم إعطائها حقوقها الكاملة.
أتمنى أن يكون الانحياز والدفاع عن قضايا المرأة مستمرًا في سوريا، وألا تؤثر قضية الشابة ميرا على هذا المسار الذي بدأ ينمو بشكل ملحوظ، ولا بد من الإشارة إلى أن قضية ميرا إحدى القضايا التي استُخدمت سياسيًا من أجل تشويه أو تلميع صورة طرف سياسي على حساب طرف آخر.
أحمد بريمو
مدير منصة “تأكد”
روايتان.. مجتمع هش
ترافقت قضية ميرا وأحمد بموجة من التشكيك والاتهامات والغضب والخوف، وعكست بيئة مجتمعية هشة، سبقتها، نهاية نيسان الماضي، مواجهات مسلحة في مدينة جرمانا بريف دمشق، إثر انتشار تسجيل صوتي على مواقع التواصل الاجتماعي احتوى إساءة للنبي محمد، نُسب لأحد شيوخ الطائفة الدرزية، وهو ما نفاه الشيخ نفسه لاحقًا.
الباحثة في مركز “عمران للدراسات” حلا حاج علي، اعتبرت أن حادثة الشابة ميرا مثال حيّ على كيفية تشكيل السرديات المتناقضة في سوريا، لأن السوريين انقسموا حيال القصة إلى روايتين متضادتين، الأولى ترى فيها حالة اختطاف وزواجًا قسريًا.
أما الثانية، فتعتبرها قصة حب كسرت الاصطفاف الطائفي، وبين هذين التفسيرين، تاهت الحقيقة، وتحولت وسائل التواصل الاجتماعي إلى “محكمة” بديلة تحكمها الانفعالات والتخندق الأيديولوجي أكثر مما تحكمها المعايير المهنية أو الأخلاقية.
وترى حاج علي، في حديثها لعنب بلدي، أن من صدّق رواية الخطف، لم يكن بالضرورة متحيزًا أو ساعيًا لتشويه سمعة الجهات الأمنية، بل مدفوعًا بخوف حقيقي من تكرار الانتهاكات، ومن عودة ممارسات القمع بواجهة جديدة، لافتة إلى أن التعاطف، وإن كان قيمة إنسانية نبيلة، يفقد منطقه حين يتشكّل في مجتمع مثقل بذاكرة جمعية مشبعة بالعنف والترهيب.
أما من أنكر رواية الخطف، فغالبًا ما كان مدفوعًا بالخوف من الاعتراف بأن الجهة التي ينتمي إليها قد تكون مسؤولة عن انتهاك مشابه، وهو ما يهدد صورته الذاتية وثقته بجماعته، ويُضعف قدرته على التفكير النقدي والتقييم الموضوعي، وفق الباحثة.
وأضافت حلا حاج علي أن ما يزيد المشهد تعقيدًا سعي الأطراف المختلفة إلى تأويل القصة بما يخدم مصالحها وسردياتها السياسية، دون مراعاة لحساسية الحقيقة أو لحاجة المجتمع إلى رواية موحدة تُسهم في التهدئة.
وترى أن سرعة الانقسام، وتبادل الاتهامات بين الجماعات المختلفة، يشيران إلى هشاشة العقد الاجتماعي، وغياب الثقة المتبادلة التي تتيح نقاشًا عقلانيًا يستند إلى الوقائع لا للآراء الشخصية والاصطفافات.
في بلد يفتقر إلى سردية وطنية جامعة، بات كل حدث هامشي قابلًا للتحوّل إلى معركة سردية كبرى. وبدلًا من فحص المعطيات، ننتقي منها ما يعزز قناعاتنا المسبقة، فنحن لا نقرأ الأحداث بعقل مفتوح، بل نُسقط عليها مخاوفنا وهوياتنا المتصارعة.
حلا حاج علي
باحثة في مركز “عمران للدراسات”
خطوات لبناء الثقة
بعد سقوط النظام السابق، صارت سوريا بيئة خصبة لانتشار الشائعات، وغزت الأخبار المغلوطة مواقع التواصل الاجتماعي، عدا عن زيادة المنشورات التي تحمل خطاب كراهية مع صعوبة في الحصول على المعلومة والتحقق منها، زادها غياب وتأخر الموقف الحكومي الرسمي معها.
الباحثة حلا حاج علي قالت، إن المشهد السوري يزداد قتامة في ظل غياب وسائل إنتاج الحقيقة، فالإعلام المستقل غائب أو مهمش، والمؤسسات الرسمية متراخية، والتحقيقات الحيادية شبه معدومة، ما يترك فراغًا تملؤه وسائل التواصل الاجتماعي، التي تحوّلت إلى محكمة جماهيرية، يهيمن عليها الانفعال ويتصدرها الخوف كقاضٍ لا يرحم.
وترى حاج علي أن الحاجة ملحّة اليوم إلى الدفع باتجاه قضاء عادل، والإسراع في خطوات العدالة الانتقالية، ومحاسبة المنتهكين من كل الأطراف، سواء في عهد النظام السابق أو من القوى الأمنية والمدنية الراهنة، مع ضرورة تعزيز ثقافة الحوار بين المناطق، وتشجيع الإعلام على تبنّي خطاب مستقل يستند إلى الشفافية وحقوق الإنسان.
وبالتوازي، لا بد من ترسيخ الثقة بين الدولة والمجتمع، من خلال إعلان نتائج لجنة تقصّي الحقائق في الساحل، وتوضيح عمل لجنة السلم الأهلي، مع إشراك المجتمع المدني والمجتمعات المحلية في صياغة وتنفيذ خططها، وكل ذلك من شأنه أن يُعيد بناء جسور الثقة، ويدفع نحو عدالة مجتمعية، وترميم ما تفتّت من النسيج الوطني، وفق الباحثة.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :