استحقاقات سورية
غزوان قرنفل
شاهدت جنازة رئيس الأورغواي السابق خوسيه موخيكا، الذي لقّب بأفقر رئيس في العالم أجمع لأنه لم يغادر سكنه ومزرعته الريفية المتواضعة الى القصر الرئاسي، ولم يتخل عن سيارته المتواضعة التي تعرف في بلادنا بالسلحفاة (فولكسفاكن-بيتل)، ولم يقبض إلا عشر راتبه خلال توليه الرئاسة، متبرعًا بالباقي لدعم مشاريع الإسكان لشعبه، وهو الذي أمضى 14 سنة سجينًا سياسيًا، معظمها في زنزانة انفرادية قبل ذلك.
الرئيس موخيكا، جرى نقل جثمانه بموكب متواضع من مقر الرئاسة إلى البرلمان مسجّى على عربة تجرها الخيول، لم يُر أحد من شعبه يلطم على وجهه أو ينعي الحاضر والمستقبل لأن البلاد فقدت زعيمًا لا يعوّض، ولم ير أحد امرأة نائحة تشق ثوبها على صدرها كنوع من التعبير عن المصيبة والمصاب الجلل لفقدان رجل بحجم التاريخ. ببساطة كانت الناس مصطفة بشكل حر وتلقائي على جانبي الطريق، يكسو الحزن وجوههم. وقفوا مصفقين عندما عبر النعش المسجّى أمامهم كتعبير عن الاحترام لمن فيه ولجهوده المخلصة لأجل وطنه، بعضهن فقط طفقت الدموع من أعينهن أو احتبستها الحناجر، وأكثرهم أطرق حزنًا على رجل صنع علامة فارقة في تاريخ بلده.
فضّلت اختيار هذا المدخل للمقال ليس فقط لأعبر عن احترامي لكفاح هذا الرجل ضد الاستبداد ولحسن أدائه لعمله بعدما تولى المسؤولية، وكان خير من عبّر عن الانسجام بين الأقوال والأفعال، وإنما أيضًا لأشير إلى مثال يحتذى، لنا جميعًا كسوريين، وخاصة لأولئك الذين يتولون مسؤولية قيادة البلاد في أي موقع أو مرتبة من مراتب السلطة، وليكون الإخلاص في العمل وحسن إدارة شؤون الناس آلية عمل راسخة في سلوكنا جميعًا، ونحن على عتبات تحولات كبرى على مستوى سوريا وبنية السلطة فيها وفي إدارة شأنها السياسي وكل شؤونها الاقتصادية والعمرانية والقانونية.
هذا المدخل أردت به توجيه رسالة لكل المطبلين، أن الناس، كما الأرغوانيون، يعرفون قدر من يخدم مصالحهم ويستجيب لحاجاتهم، ويحمي حقوقهم، وقيام الحاكم بواجبه لا يستوجب الشكر ولا التقديس وإنما الاحترام فحسب، وبالتالي فإن مسعى هؤلاء المطبلين لإكساء الكمال على كل ما يقوله أو يفعله “الزعيم” أو”القائد” ومحاولة قمع كل صوت أو قلم ينال من هذا الكمال المتوهم، ليس إلا مسعى بغير هدى لصناعة منظومة استبداد جديد قد تكون أكثر خطرًا وفتكًا بالحريات والحقوق والمطالبين بها، لأنها هذه المرة متدثرة بالدين.
لذلك من المهم ونحن على عتبات مرحلة جديدة، مغايرة تمامًا لكل ما عهدناه واعتدناه، أن نتعلم هذا الدرس، وأن نستعيد مفهوم السلطة التعاقدية، فأي سلطة في العالم يفترض أن منشأها هي الإرادة الحرة للناس، وأن من في السلطة هم أجراء متعاقدون مع المجتمع على إدارة شؤونه وتنظيمها وتقديم الخدمات وإقامة العدل بين الناس وتوفير الأمن والأمان لهم والسعي لرفاه عيشهم، فإن أفلحوا يتجدد التعاقد معهم وإن فشلوا فثمة بديل عنهم، هكذا وبكل بساطة ودون أي تعقيد للمفاهيم.
إن استعادتنا لهذه المفاهيم، والإيمان بها، يجعل من الرصد والمتابعة والنقد الرصين سلوكًا مجتمعيًا إيجابيًا يحاول كبح جماح السلطة، أي سلطة، عن أن تتغول أو تستأسد على الناس أو تفسد في الأرض، وهو سلوك يجب أن يكون محل شكر واحترام لا محل تربص وقمع.
نحن نعتقد أن بوابة العبور والانتقال إلى سكة التعافي وإعادة البناء بعد قرار الولايات المتحدة رفع العقوبات عن سوريا، هو استحقاق وطني يصّلب عود الدولة ويكسبها مناعة حقيقية، وهو ورشة إعادة بناء الدولة السورية نفسها وهياكل السلطة فيها على أسس وقواعد جديدة مختلفة كليًا عما كانت عليه، وهي المواطنة المتساوية ومبادئ الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة وتكريس مفهوم العدالة ومبدأ سيادة القانون، وجلها مبادئ تعزز عملية التحول الديمقراطي المبتغى. فالإصلاح والنهوض الاقتصادي لا يمكن أن يتم بمعزل عن الإصلاح السياسي وفي العمق، والإصلاح الاقتصادي لا يمكن أن يتم بمعزل عن حوكمة مؤسسات الحكم والإدارة وشفافيتها، والإصلاح الاقتصادي لا يمكن أن يتم دون صحافة حرة وحق الوصول للمعلومات، فلا يمكنك القول: سأتبنى مبدأ الاقتصاد الحر، وأنت تقيد المجتمع. الاقتصاد الحر بيئته الطبيعة وانتعاش بذوره لا يكون إلا في المجتمعات الحرة والنقابات الحرة والأحزاب السياسية الحرة والصحافة الحرة والثقافة الحرة. أما أن تحكي خارج القانون الوضعي المكتوب، بالمحظور والمكروه والمندوب وأجمع العلماء واتفق الفقهاء، وتحاول المزاوجة بين موجبات العصر وفقه التحنّط، فهذا لا يصنع تغييرًا بل يستولد جنينًا مشوهًا لا قبل للمجتمع بتحمل عبء مسؤوليته، ولا حاجة لنا أن نجرب ذلك ابتداءً.
إن حجم المسؤوليات والالتزامات المترتبة على السلطة تجاه شعبها أولًا، وتجاه دول الإقليم والدول الفاعلة في الملف السوري ثانيًا، وانسجامًا واستجابة لموجبات التحولات الكبرى الجارية في المنطقة وإعادة تموضع الدولة السورية الجديدة ضمن خارطة تلك المتغيرات، توجب فتح فضاء الحوار الوطني العام مع المجتمع بعموم تلاوينه ومكوناته لخلق مساحات شراكة وطنية أوسع وأشمل، يتحمل فيها جميع السوريين عبر ممثليهم مسؤولية القرار في تبني هذه التحولات ورسم حدودها ورسم السياسات طالما كانت تنسجم مع مصالحهم العليا، وتؤسس لفض اشتباك مجتمعي وسلم أهلي وشراكة ومشاركة وطنيتين.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :