تعا تفرج
الجماهير ودرس بورقيبة
خطيب بدلة
نتيجة قاسية، وصادمة، توصلتُ إليها، خلال حديثي السابق، في زاوية “تعا تفرج”، وهي: أن السوريين المتشبعين بالفكر القومي، العروبي، الذين كانوا يهتفون للوحدة العربية من المحيط إلى الخليج، ولا يرضون أن ينقص من مساحة دولتهم الموحدة المنشودة سنتمتر مربع واحد، أصبح همهم الأكبر، اليوم، بعد كل الهزائم والخيبات التي لحقت بهم، الحفاظ على وحدة سوريا، والحيلولة دون تقسيمها إلى دويلات صغيرة!
ليس مقلقًا أن ينخفض سقف شعاراتنا، على هذا النحو الصادم.. المقلق، والمرعب، ألا نستطيع تحقيق حلمنا الجديد، أعني المحافظة على وحدة سوريا نفسها، والأغرب من هذا وذاك، أننا لم نأخذ درسًا مما حصل، وبقينا مصرين على معالجة قضايانا المصيرية بالصراخ، والانسياق وراء الشعارات والخطابات، دون تفكير، والجري، بسرعة البرق، باتجاه الانقراض.
في السبعينيات من القرن الماضي، أعطانا الرئيس التونسي الأسبق، الحبيب بورقيبة، درسًا موجزًا، بالغ الأهمية، حينما تحدث عن الهاجس الذي يدفع قادة بعض الدول العربية لإبرام اتحادات ارتجالية، كالاتحاد الرباعي بين سوريا ومصر وليبيا والسودان، وقال متسائلًا ومستنكرًا: أين صار هذا الاتحاد؟ ألا ترون كيف تذهب كل واحدة من هذه الدول المتحدة في اتجاه؟ نحن بحاجة، أولًا، لبناء الإنسان، وإنارة الأدمغة، وتساءل: أي وحدة ستنجح في ظل حال الفقر، والجهل، والتأخر العلمي، والتكنولوجي؟
لم يمر هذا الدرس الكبير، مرور الكرام، بالعكس، فالجماهير العربية، المنساقة وراء الخطابات الإنشائية، قابلت الرئيس بورقيبة بمزيد من الغضب، والتخوين، سيما وأنه لم يكتفِ بأن طالبهم بتشغيل عقولهم، وبناء أوطانهم على نحو لائق، بل دعاهم لإيجاد طريق للسلام مع إسرائيل، وكان هذا، برأيهم، أكبر خيانة للقضية، ولشعارات النصر، والتحرير، ومحاربة الاستعمار، والإمبريالية، والرجعية.
المشكلة التي تتعاظم في بلادنا، حتى تصل إلى مستوى المعضلة، هي أننا نترك الطريق الوحيد الذي يوصلنا إلى بر الأمان، ونستبسل في سلوك طرقات مليئة بالحفر، والمطبات، والضواري، والأعاصير، فيموت منا من يموت، ويتشرد من يتشرد، ويجوع من يجوع، ونذوق الأمرين حتى نتمكن من العودة إلى مفترق الطرق، لنترك الطريق الوحيد الذي يوصلنا إلى بر الأمان، ونجرب المغامرة في طريق آخر، أكثر غموضًا، ووعورة، وخطرًا.
أردت، من خلال الفكرة السابقة، الوقوف عند معضلة أخرى، كانت تتحكم بعقول الجماهير في سوريا، ومعظم الدول العربية، وهي أن معظم سكان هذه البلاد يتبنون، بوعيهم أو دون وعيهم، العقيدةَ البعثية التي تؤكد على تلازم العروبة مع الإسلام، ولكنهم كانوا يرون، بأعينهم، كيف قدم الحكام العروبة على الإسلام، لا بل إن الحكام المستبدين، أمثال جمال عبد الناصر، وصدام حسين، وحافظ الأسد (ووريثه)، كانوا يرون في مشايخ المسلمين، المطالبين بإقامة دولة الخلافة الإسلامية، خطرًا عليهم، فيقتلونهم، أو يزجونهم في السجون، وهذا ما أدى إلى تشكل حلم كبير، عند جماهيرنا، وهو أن تتحول بلادنا إلى دول تحكم باسم الشريعة الإسلامية، وهذا هو، بالضبط، الطريق الثاني الذي سنجرب سلوكه، مؤملين أن يوصلنا إلى بر الأمان.. والمعضلة أننا لا نصدق أن الدين يصلح للعبادة، أكثر مما يصلح لبناء الدول الحديثة.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :