هي عدالة المنتصر لا أكثر

tag icon ع ع ع

غزوان قرنفل

لم يكن مرسوم تشكيل هيئة وطنية للعدالة الانتقالية في سوريا صادمًا، بقدر ما كانت عليه آراء وتصريحات وردود فعل كثير من الحقوقيين ورجال القانون السوريين من المهتمين أو الذين عملوا طوال السنوات السابقة على ملفات وسياقات ذات صلة بالعدالة الانتقالية. والصادم حد الدهشة هي تلك الآراء والتوقعات المنتظرة بأن تكون العدالة شاملة لا تمييز فيها بين الضحايا ولا تخص طرفًا واحدًا من المرتكبين والمنتهكين لحقوق السوريين ممن كانوا على الضفة الأخرى من الصراع.

ومبعث الدهشة هو أن أولئك الذين عبروا عن مثل تلك الآراء يتعاملون مع الأمر في بعده القانوني والأخلاقي الصرف مفترضين وجوب النأي بقضية العدالة عن السياسة، أو أنهم لا يريدون حقًا قراءة المشهد السياسي على حقيقته، والتعامل معه في سياق الأمنيات المتخيلة وليس من خلال حقائق الواقع الذي فرض انتصاره، ليس على نظام العصابة ومافيا السلطة السابقة فحسب، بل وانتصاره على ما كان يأمله السوريون  في خلق حالة شراكة وطنية تمهد الطرق والسبل لإنجاز عملية تحول ديمقراطي حقيقي تقلب كثيرًا من المفاهيم الراسخة في تربة الاستبداد، لتعيد استزراع ما هو نقيض لها، بما يؤمّل السوريين عمومًا في أنهم سيحصدون يومًا غلالًا وفيرة من طمأنينة عيش وصوت حر قادر على مساءلة من يناط بهم القرار عن تقصير هنا وفشل هناك، بل وإزاحة هذا المسؤول أو ذاك من منصبه ومساءلته عما يفعل بوصفه بشرًا لا ظل إله، عبر آليات ديمقراطية وأدوات حكم قابلة للتداول بسلم وسلاسة دون دمار و دماء.

هي إذًا عدالة انتقائية أو عدالة المنتصر، سمِّها ما شئت، لكنها كذلك حقًا، ولن تكون غير ذلك أصلًا، طالما أن الصراع نفسه حسم عسكريا وانتصر فيه طرف على طرف آخر، والمنتصر هنا كما المنتصر عليه لا يؤمن أصلًا بذلك النمط وهذا المفهوم من العدالة، وسيكون من العبث واللامعقول توقع أن تقيم سلطة المنتصر العدل على نفسها وتحاسب من ارتكب من منتسبيها جرائم حرب أو جرائم تعذيب أو غيرها من الجرائم التي تفننت كل الأطراف المنخرطة بالصراع في ابتداع أشكال لها، مع حفظ مركز الأفضلية والسبق دائما لسلطة الأسد المدحور بلا منازع.

الحلفاء الذين انتصروا في الحرب العالمية الثانية حاكموا خصومهم فحسب في محاكمات طوكيو ونورمبيرغ، ولم نرَ محكمة عقدت لمحاكمة جندي واحد من جنود الحلفاء المنتصرين عن جريمة حرب ارتكبها بحق خصومه أو بحق مدنيين.

لست هنا في وارد خيانة ضميري الحقوقي والقانوني وتقديم سوابق وشواهد ومبررات للسلطة الحالية بشأن قرارها حصر عمل الهيئة ضمن نطاق “الجرائم التي ارتكبها النظام البائد”، وتجاهل الجرائم التي ارتكبها زعماء الميليشيات وأمراء الحرب، بل على العكس، فإنني ممن يعتقدون أن هذا العوار في القرار لا يؤسس لعدالة تحترم حقوق الضحايا، أو تحترم قيمة العدل نفسها، فضلًا عن أنها لا تعزز مفهوم سيادة القانون الذي لا بديل عنه كمدخل لأي عدالة مرتجاة.

صحيح أنها ربما تستطيع إنصاف قسم من الضحايا، ومحاسبة قسم من المرتكبين والمنتهكين وهو الجزء الأكبر ممن تسببوا ونفذوا هذه المقتلة السورية، لكنها بالقطع لا تؤسس بالمعنى القانوني المجرد لعدالة تنقل المجتمع إلى ضفة جديدة، ومرحلة جديدة تبلسم جراح المجتمع السوري وتمنحه طمأنينة ويقينًا بعدم التكرار، طالما أن بعضًا من أولئك الضالعين في ارتكاب جرائم جسيمة قد تولوا مناصب اكتسبوا بها حصانة وحماية تنجيهم من المساءلة.

بطبيعة الحال، كثر هم الزملاء الذين أبدوا تحفظات أو مآخذ لجهة ما قدمنا له آنفًا أو لجهة تشكيل الهيئة بمرسوم رئاسي وليس بقانون يصدر عن المجلس التشريعي المنتظر “تعيينه”، لكني أعتقد أن أزمة قضية العدالة الانتقالية في سوريا ستتبدى أكثر ضمن سياق مسار إصلاح المؤسسات، وأزعم أنها ستصطدم بمعوقات كبيرة جدًا على مستوى الإطار الدستوري والتشريع القانوني الذي يفترض أن يقرها ويؤطرها، وبالتالي فلن يكون النجاح حليفًا لأي إصلاحات مؤسسية في ظل سلطة غير تشاركية ومطلقة، فالوثيقة الدستورية التي تستند إليها مؤسسة السلطة الحالية لم تبنَ على توافقات ولا مشاورات وطنية ولا تعكس أبدًا الإرادة الحرة للسوريين، وإنما هي تعبير عن سلطة القوة المنتصرة التي حاولت إكساء نفسها شرعية دستورية ولو مؤقتة، تسوغ لها التفرد بالسلطة وإفراغ الفضاء العام من أي فعل أو نشاط سياسي بما يشبه عزلًا سياسيًا للمجتمع كله، تأمل أن يتيح لها ذلك فرصًا وهوامش لبناء سلطة مستدامة تتوسل شرعيتها الحقيقية من قدرتها على خدمة مصالح القوى الإقليمية والدولية التي دعمت وسهلت وصولها للحكم، غير عابئة بأي شرعية داخلية تعرف أنها قد لا تحصل عليها بالصورة التي تريدها مطلقة اليد والصلاحية وفوق السؤال والمساءلة، وهذا ما سيحول بالضرورة دون إنجاز إصلاحات مؤسسية في العمق، بل على العكس، ربما تكون بعض الإصلاحات أقرب لتخريب وتهديم ما يصلح إصلاحه كما حصل ويحصل في مؤسسة القضاء مثالًا.

كل ذلك يقودنا مرة أخرى للبحث عن أسّ المشكلة لنجد أنه يكمن في لحظات التأسيس الأولى وما تبعها من خطوات وقرارات ومسارات، أي منذ لحظة إطلاق “كرنفال” حوار “وطني” هو أقرب للنجوى أو المونولوج كما يسميه السينمائيون، حوار مع النفس لا مع الآخرين، أتبع بكارثة الإعلان الدستوري الذي يؤسس لحقبة “فرعونية” حقيقية لا نعرف لها أفقًا زمنيًا، وكلما قلنا إن بلدنا وحالنا يحتاج لتوافقات وشراكة وطنية، يجابه قولنا بالرد: “… يا قوم ما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد”.



مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة