العقوبات والشروط الخمسة
لمى قنوت
يشكل رفع العقوبات الجائرة عن سوريا أهمية استثنائية من أجل إعادة الإعمار، وتعافي الاقتصاد، ودمج الأسواق السورية بالأسواق العالمية، وتحرير الأصول المجمدة، وإنهاء الإجراءات الاحترازية أو الإفراط بالامتثال، والتي عانت منها المؤسسات، كما الأفراد، وقوضت حقوقهم، كالحق في العمل والتنقل والصحة والعيش الكريم والحصول على التكنولوجيا، وغيرها من الحقوق التي أحبطت فرصهم وتطورهم المعرفي وأفقرتهم، وما التعبير الفوري لفرح أغلبية السوريين والسوريات، إثر إعلان ترامب عن رفع العقوبات الأمريكية عن سوريا خلال زيارته للمملكة العربية السعودية، سوى رفع لأذى لحق بهم لعقود طويلة، منذ عام 1979، ثم، وبشكل مرن رفُعت عقوبات الاتحاد الأوروبي.
واقعيًا، فإن العقوبات الاقتصادية أداة من أدوات الحرب، وهي وسيلة لتحقيق أهداف سياسية، وقد شبهها نيكولاس مولد في كتابه “السلاح الاقتصادي” بأنها غالبًا ما تكون كطلقة “بندقية رشاشة، قد تصيب الهدف، لكنها ستصيب أيضًا غير المستهدفين، وفي بعض الحالات يمكن لمن تستهدفهم العقوبات أن يتجنبوا هذه التكاليف تاركين الأكثر ضعفًا يتحملون العبء الأكبر وهذا يطرح أسئلة عملية وأخلاقية بخصوص العقوبات”.
وبالفعل، نجا الأسد من أضرار العقوبات، إذ كان نهبه للمال العام وتهريبه سهلًا ومرنًا ومراقبًا حتى من الدول التي وضعت العقوبات على سوريا وعلى شبكات أعماله، أفرادًا ومؤسسات، لكنها، أي تلك الدول، تجاهلت التفاف النظام على العقوبات حتى آخر لحظة، وخصوصًا الرحلات الجوية الأخيرة التي قام بها مستشاره الاقتصادي يسار إبراهيم بنقل أموال ومقتنيات ثمينة ووثائق سرية، حسب وكالة الأنباء “رويترز“، قبل فرار الأسد بيومين، بين 6 و8 من كانون الأول 2024.
بالتوازي مع صمت الشرع وعدم مصارحة الشعب حيال الالتزامات التي قدمها للإدارة الأمريكية من أجل رفع العقوبات، والمحادثات التي أجراها مقربون منه مع إسرائيل، شهدنا سيلًا إعلاميًا حيالها، على سبيل المثال، صرح ماركو روبيو، وزير الخارجية الأمريكي، بأن السلطة الحاكمة في دمشق “أعربت عن رغبتها في السلام مع جميع جيرانها، بما في ذلك إسرائيل، كما أعربت عن رغبتها في طرد المقاتلين الأجانب والإرهابيين وغيرهم ممن قد يزعزعون استقرار البلاد ويُعَادون السلطة الانتقالية، وقد طلبت مساعدتنا في ذلك، وسوف نسعى لمساعدتها”، وفي أذربيجان، جرت محادثات مباشرة بين ممثلين عن الحكومة الانتقالية وإسرائيل، حضرها عن جانبهم رئيس مديرية العمليات في الجيش الإسرائيلي، اللواء عوديد سيوك، ورئيس مجلس الأمن القومي، تساحي هنغبي، وبحضور مسؤولين أتراك، وأوضح كوري ميلز، عضو مجلس النواب الأمريكي أن الشرع يرغب بالانضمام إلى الاتفاقيات الإبراهيمية وفقًا “للشروط الصحيحة”.
ومن أنطاليا، في 15 من أيار الحالي، أوضح روبيو أيضًا، أنه ستصدر إعفاءات أولية من العقوبات لكنها لن تلغى بالكامل، وإذا “أحرزت سوريا تقدمًا” ستطلب الإدارة من “الكونجرس” إلغاء العقوبات بصورة دائمة، لأن “احتمال عودة العقوبات كل ستة أشهر يشكل رادعًا للاستثمار“، وفق تصريحه.
وحددت المتحدثة باسم البيت الأبيض، كارولين ليفيت، المطالب الخمسة التي وجهها ترامب للشرع خلال لقائهما، وشملت: التوقيع على اتفاقية “أبراهام” للتطبيع مع إسرائيل، ومطالبة جميع المقاتلين الأجانب بمغادرة سوريا، وترحيل المسلحين الفلسطينيين الذين تصنفهم الولايات المتحدة على لوائح الإرهاب، ومساعدة الولايات المتحدة على منع عودة تنظيم “داعش”، وتحمل مسؤولية مراكز احتجاز أسرى “داعش”.
لا تبدو بعض المطالب الأمريكية سهلة التنفيذ بالنسبة للشرع، وعلى رأسها ملف إخراج المقاتلين الأجانب من سوريا، فقد اعتبرهم شركاءه في إسقاط النظام ووصوله وفريقه إلى السلطة، وتم إعطاء رتب عسكرية لستة منهم على الأقل، ودمج بعضهم في وزارة الدفاع أو أصبحوا ضمن ملاكها، الأمر الذي أثار رفضًا سوريًا، رغم تبرير البعض بأمثلة حصلت في سياقات أخرى.
وعلى الأغلب، لن تتعاطى السلطة الانتقالية بجدّية مع مخاوف السوريين والسوريات من وجودهم والخشية من اقتتالهم، وتنامي تحويل سوريا كمنطلق لجهاد عابر للحدود، ومن تصاعد تأثير الجماعات التكفيرية على النسيج المجتمعي، وإنما قد تفاوض الأمريكي على عدم إخراج من يريد البقاء منهم في سوريا، بحجة تجنيسهم أو زواجهم من سوريات، والتعهد بضبط تطلعاتهم للجهاد خارج الحدود وإبعادهم عن المناصب في وزارة الدفاع، وستحاول ألا تثير توجس الجهاديين الأجانب، وخاصة بعد أن هاجم تنظيم “داعش” الشرع في افتتاحية صحيفتهم الأسبوعية الإلكترونية “النبأ”، واتهموه بالهوس بالسلطة، واستبدال “ملة إبراهيم” باتفاقيات “أبراهام”، بعد لقائه مع ترامب، ووجهوا دعوة للمقاتلين المنضوين تحت وزارة الدفاع للانضمام إلى خلاياهم، معتبرين “أن الشرع استغلهم لتحقيق مشروعه الشخصي”. وبعد تداول معلومات عن حملة أمنية تستهدف مقاتلين أجانب، نفى نور الدين البابا، المتحدث باسم وزارة الداخلية، هذه الأخبار واعتبرها مضللة، وأعلن عن حملة أمنية تستهدف خلايا “داعش” في أحياء حلب الشرقية. ونافلة القول، فإن القضاء على “داعش” وأفكارها هو مطلب سوري، لا يجب أن يقتصر على المعالجة الأمنية فقط، بل يجب أن تتضافر الجهود مع معالجات قانونية وتعليمية واجتماعية، وجهود دبلوماسية مع الدول التي عليها أن تستعيد رعاياها المنتمين للتنظيم والمحتجزين في سجون سورية.
أما عن شرط الإدارة الأمريكية المتعلق بالانضمام إلى الاتفاقيات الإبراهيمية، فإن التصريح الوحيد الذي صدر عن الشرع بخصوص مفاوضات غير مباشرة تمت مع إسرائيل، كان خلال مؤتمر صحفي مشترك بينه وبين الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في قصر “الإليزيه” بفرنسا، وبعد عودته من السعودية ولقائه ترامب، لم يطمئن السوريين والسوريات بشأن عدم التفريط بالجولان المحتل والانسحاب من المواقع التي احتلتها مؤخرًا، خلال خطابه الذي شكر فيه السعودية وتركيا وعددًا من الدول العربية والرئيس الأمريكي، وخاصة أن الأخير كان قد اعترف “بسيادة” إسرائيل على مرتفعات الجولان في عام 2019، وهي خطوة مخالفة لقرار مجلس الأمن “497”.
ومن المفيد التأكيد على أن تطبيع الإدارة الانتقالية مع المحتل الإسرائيلي هو تجاوز لحدود صلاحياتها الانتقالية، كسلطة غير منتخبة، وينم عن حرص للاستحواذ على السلطة من بوابة الرضا الصهيو- أمريكي، وهروب للأمام بدل الانفتاح على الداخل والدعوة إلى مؤتمر وطني يكون بمثابة جمعية تأسيسية من أجل بناء عقد اجتماعي، ومما لا شك فيه، أن التفاوض مع إسرائيل، من عدمه، بحاجة لاستفتاء شعبي وسلطة منتخبة، علاوة على ذلك، فإن السلطة مطالبة بالكشف وتوضيح كيف حصلت إسرائيل على نحو 2500 وثيقة وصورة ومقتنيات شخصية كانت ضمن أرشيف الوثائق الرسمية الخاصة بعميل “الموساد” إيلي كوهين.
وبخصوص الفصائل الفلسطينية العاملة على الأرض السورية، فجميعها لم يكن لديها نشاط عسكري ضد إسرائيل انطلاقًا من الأرض السورية، وأغلبية قادة الفصائل الذين قاتلوا مع النظام البائد فروا خارج البلاد بعد سقوطه، أما من كان لهم موقف سياسي دون التورط بالانتهاكات أو نأوا بأنفسهم عن التدخل في الشأن السوري فيجب أن تصان حقوقهم، وبضمنها حقهم في العمل السياسي والإغاثي والتوعوي، واحترام خياراتهم الشخصية في البقاء في سوريا أو مغادرتها، ويفترض بمسار العدالة الانتقالية أن يشمل محاسبة المتورطين في الجرائم من السوريين ومن في حكمهم، وبالمقابل، فإن المحاسبة وجبر الضرر ومعرفة الحقيقة ورفع المظالم يجب أن تشمل الناجين السوريين والفلسطينيين، نساء ورجالًا، على حد سواء، وفي هذا المقام، لا بد من التأكيد على أن سوريا يجب أن تكون دومًا مع الحق الفلسطيني في تحرير الأرض وتقرير المصير.
لا شك أن تجاوز إرث الصراع وآثار حقب الاستبداد المديد والمرحلة المليئة بالمخاطر تتطلب نهجًا مختلفًا عن النهج الذي تتبعه السلطة الانتقالية، التي حصرت مفاصل السلطة بيد “هيئة تحرير الشام” وحكومة “الإنقاذ”، وسلقت الحوار الوطني على عجل، وأصدرت إعلانًا دستوريًا فُصل على مقاس الرئيس، ولا تزال تمارس مركزية شديدة بدل اتباع نهج تشاركي، وتدير البلد وفق عقلية الفصيل والجماعة بدل عقلية الدولة الحيادية تجاه جميع مكوناتها وأيديولوجياتهم، فلا يمكن لأي سلطة إدارة هذه المرحلة، وأي مرحلة أخرى، بمعزل عن الاستقواء بالشعب، فهو مصدر القوة والسلطة والشرعية، ودون مشروع سياسي ديمقراطي يسهم في بناء الوحدة الوطنية، ويؤمن بالتعددية والتنوع والحرية، ويتبنى رؤية اقتصادية تسعى إلى العدالة الاجتماعية، وإلا ستبقى عرضة للتفكك والتجاذبات الدولية والإملاءات الخارجية.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :