السوريون لا يملكون ترف الموت مجددًا

tag icon ع ع ع

غزوان قرنفل

سبق للسوريين أن خاضوا تجربة الموت، بعضهم فقط من نجا، هم أولئك الذين توفاهم الله فكان ذلك بمثابة منفذ نجاة لهم من تجربة الحياة التي هي كالموت طوال عقد ونصف.

والحقيقة أن السوريين موتى منذ أكثر من نصف قرن، وحياتهم فيها كانت محنطة، كئيبة، رتيبة، تخرج من نوافذ بيوتهم رائحة العفن، وكأن شبابيكها لم تكن تفتح للتهوية ولتسرب بعض خيوط الشمس إلى غرفهم الباردة، والخاوية من أي مشاعر، فشاغلوها تحنطت في قلوبهم العواطف وصاروا يجددون العيش والأجيال بقوة الغريزة فحسب.

أيفعل الاستبداد كل هذا؟ بل يفعل أكثر وأكثر، طالما أنه يدجّن الإنسان ويكسر كرامته، ويجعله مجرد عضو في قطيع بشري يقاد بكل انصياع وتسليم نحو نحره، دون حتى أن يكسب شرف الثغاء.

في لحظة فارقة جدًا من التاريخ، أفاق السوريون من ثباتهم الطويل، وأدركوا أن الحياة شيء آخر غير تلك التي يحيوها، وأنهم بشر، لهم ما للبشر خارج كهفهم المعتم من حقوق، وأن الحياة تستحق كسر عصا الطاعة مهما كلفت من أثمان، وفعلوا.

دفع السوريون ثمنًا كبيرًا من حياة أبنائهم وتشردهم ليخرجوا من قبرهم الكبير إلى رحاب الدنيا، وليدفنوا إلى الأبد كل ملمح لشكل من أشكال الطغيان أو الاستبداد.

أهمية هذا المدخل تكمن في أننا يجب أن نستعيد دومًا ومعًا وجميعًا مرارة تلك المعاناة، والأثمان المؤلمة التي دفعناها للانعتاق والخروج من نفق الذل والمهانة، لنشحذ عقولنا وعزائمنا برفض تكرار أو استنساخ أي نموذج للاستبداد من جديد، وردم هذا النفق على كل ما فيه من أدوات الطغيان، والتطلع نحو أفق لبلد جديد ومجتمع جديد طلّق الاستبداد بالثلاث.

واقعة اعتداء رجل الأمن على قاضٍ في حلب واعتقاله وحجز حريته خارج نطاق القانون وتعذيبه وإهانته، والتي لم تستوجب من وزارة الداخلية سوى توقيف الفاعل لبضع ساعات ثم إطلاق سراحه دون عزله من وظيفته، وممارسة الضغط على القاضي ليتنازل عن حقه الشخصي و”يسامح” المعتدي، لا يجب التهوين منها، فهي ليست سوى فعل تأسيسي لطغيان جديد، واعتداء على هيبة القضاء والدولة كلها، ووطء لمبدأ سيادة القانون بـ”البسطار”، فالتجرؤ على امتهان هيبة القضاء يتيح في كل حين لأي مستقوٍ بالسلاح أن يستبيح كل شيء ويطأ مجددًا رؤوس الناس بنفس “البسطار”.

هذه الواقعة وتخريجات حلها تظهر تبديات سلطان القوة وسعيه للتغول على سلطان القانون، وهي انتصار حقيقي لسلوك الدولة البوليسية على ما يتعين سلوكه واتباعه من إجراءات في دولة القانون المنتظرة أو المأمولة، وهذا ما يتعين على السلطة وعلى المجتمع إدراك خطورة الانزلاق إليه مجددًا.

سوريا والسوريون لا يملكون اليوم ترف التجريب مجددًا، ولا يملكون أيضًا ترف التفرد والاستئثار وإعادة إنتاج السلطة المركزية التي تدس أنفها في كل شيء، وتدير شؤون الناس دون إشراكهم ومشاركتهم في ذلك، فالسوريون بلغوا سن الرشد، وعليهم أن يتعلموا كيف يديرون شؤون وتفاصيل حياتهم بطريقتهم وأدواتهم، طالما أن كل ذلك يحصل تحت إطار دستوري لا يقصي أو يهمش أو يتجاهل أو يتمرد على قرار المركز في إدارة شؤون الدولة الكبرى في المناحي الاقتصادية والسياسية والعسكرية.

سيخطئون، وسينجحون ويفشلون، وهذا طبيعي جدًا، لكنه البداية الصحيحة للسير على طريق التعافي، فالزمن الذي تحتكر فيه سلطة المركز القرار والثروة والسلطة، وتنحي المجتمع جانبًا، طويت صفحته وانقضى وثبت فشله وكارثيته، وكل سلوك أو إجراء يفضي لإقصاء المجتمع وتهميشه والتفرد بالسلطة سيفضي بالضرورة إلى سلطة استبدادية جديدة مهما زعم البعض خلاف ذلك.

لدى السوريين اليوم فرصة ذهبية للحياة والعمران مجددًا، وللخروج من كهف الاستبداد المديد والإمساك بناصية التطور والمدنية، ولا ينقصنا إلا الشعور بالطمأنينة بدل التصادم، وبالشراكة والمشاركة بدل التهميش والإقصاء. ما ينقصنا هو الإقرار بالحقوق والحريات واحترامها بديلًا عن الانغلاق أو التفلّت، والإفراج عن حق المجتمع في ممارسة السياسة ومراقبة سلوك الحكومة وأدائها وفضح انحرافاتها إن فعلت. ما ينقصنا هو حوار حقيقي بين السوريين بالكلام لا بالبنادق ترعاه السلطة نفسها وتتلمس فيه ومن خلاله هواجس الناس ومخاوفهم ورؤاهم وتوافقاتهم بشأن سوريا جديدة ليست ذات صلة إلا بالمستقبل وبالمصالح العليا للسوريين، وبشروط العيش المشترك الآمن الذي يحفظ سلامة سوريا والسوريين جميعًا.

دعونا ندرك ونسلّم أن تلك المليارات من الدولارات التي تنتظرها سوريا للاستثمار فيها بمختلف القطاعات تحتاج إلى بيئة آمنة لا يوفرها الخوف ولا الإقصاء ولا التفرد ولا التشظي، وتحتاج إلى شركات وأفراد مطمئنين على أعمالهم وأموالهم، بنفس القدر الذي تحتاج فيه إلى حالة طمأنينة أمنية وقانونية توفر الحماية والشفافية والشراكة الوطنية.

ما يحصل حتى الآن لا يؤشر لإدراك أن هذه الفرصة الذهبية تأتي مرة واحدة ولا تتكرر أبدًا، وليس من الرشد ولا من الحكمة بطبيعة الحال تفويتها لمجرد أننا سحرنا بإغواء السلطة ومغرياتها، فالسوريون مجددًا وتكرارًا لا يملكون أبدًا ترف الخوض في تجربة الموت من جديد.



مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة