إدارة المصرف المركزي السوري وسياسات الليرة بعد التحرير

tag icon ع ع ع

ملهم جزماتي

شكلت الأحداث التي تلت التغييرات السياسية في سوريا، وخاصة في العاصمة دمشق، منعطفًا حاسمًا للاقتصاد السوري والمؤسسات المالية فيها.

بخلاف ما شهدته مدن أخرى من انتقال منظم للسلطة، واجهت دمشق فترة من عدم الاستقرار الأمني والفوضى الأولية، مما أثر بشكل مباشر على المؤسسات الحيوية، وعلى رأسها مصرف سوريا المركزي. فشهدت المدينة أحداث مثيرة، فمن دخلها فصائل عسكرية جديدة غير منظمة تحت مسمى “غرفة عمليات الجنوب” التي أسست فور تحرير مدينة حماة، ومع غياب التنسيق الميداني بين هذه الفصائل وغياب الخطة المسبقة لعملية تحرير دمشق، نشط الغوعاء الذين صالوا وجالوا فأحرقوا مبنى الهجرة والجوازات ووصلوا إلى مبنى مصرف سوريا المركزي وباشروا بنهب ما تركه بشار الأسد، فارتفعت المناشدات والمطالبات الشعبية في العاصمة لغرفة العمليات العسكرية بضرورة الإسراع ودخول المدينة لإحلال الأمن فيها والحفاظ على الممتلكات العامة كما حدث في بقية المحافظات. وحماية ما تبقى من أصول نقدية ومعدنية، وُصفت فيما بعد بأنها ضئيلة مقارنة بالاحتياطيات المفترضة سابقًا، فوصل سعر صرف الليرة مقابل الدولار الأمريكي إلى مستويات قياسية غير مسبوقة في السوق الموازية ليصل إلى مستوى 30 ألف ليرة في بعض مناطق سوريا.

في خضم هذه الظروف الاستثنائية، برز دور الإدارة الجديدة للمصرف المركزي. ويغض النظر عن هوية من هو صاحب القرارات التي صدرت فيما بعد أو من هو الفريق الإداري والتقني الذي يساعده، فإن القرارات التي اتخذت في الأشهر الأولى شكلت محورًا أساسيًا في محاولة تحقيق الاستقرار النقدي والاقتصادي.

يهدف هذا المقال إلى تحليل تلك السياسات النقدية الأولية، وتقييم فعاليتها، واستكشاف التحديات والآفاق المستقبلية لليرة السورية، مع التركيز على تحليل أدائها مقابل الدولار والقراح آليات لتعزيز استقرارها.

السياسات النقدية الأولية: استجابات جريئة في وجه الأزمة

اتسمت الاستجابة الأولية للإدارة الجديدة للمصرف المركزي بالجرأة في مواجهة أزمة سيولة حادة وانهيار شبه كامل للثقة بالعملة المحلية. تمثلت أولى الخطوات الحاسمة في إقرار قانون إلغاء القيود المفروضة سابقًا على التعامل بالدولار الأمريكي. وبالتزامن مع شح السيولة بالليرة السورية وتجميد الودائع المصرفية المقدرة بمليارات الدولارات، كان هذا القرار يهدف بشكل واضح إلى تشجيع إخراج المدخرات الدولارية المكتنزة لدى الأفراد والشركات إلى التداول الفعلي.

كان المنطق وراء ذلك هو أن السماح بحرية تداول الدولار سيخرجه من مخابئه التي ظل مخبئًا فيها طيلة فترة حكم الأسد خوفًا من الملاحقات القانونية التي كانت ستطال المتعاملين به.

أدت هذه السياسة إلى زيادة المعروض من الدولار في السوق، ولكن بشكل متناقض، أدت أيضًا إلى زيادة الطلب على الليرة السورية. فالأفراد الذين بدأوا باستخدام دولاراتهم المدخرة كانوا بحاجة إلى تحويل جزء منها إلى ليرات لتلبية الاحتياجات اليومية الأساسية وشراء السلع والخدمات المحلية التي لا تزال تسعر أو تتطلب الدفع بالعملة الوطنية. هذا الطلب المتزايد على الليرة مقابل زيادة تداول الدولار، أدى إلى تحسن ملحوظ في سعر صرفها في السوق الموازية، حيث انخفض سعر صرف الدولار من مستوياته الفلكية التي أشرنا لها سابقًا إلى حوالي 9000 ليرة.

الخطوة التالية التي أثارت جدلًا في الأوساط الاقتصادية، تمثلت في تحديد سعر صرف رسمي لليرة السورية عند 13,500 ليرة مقابل الدولار، وهو سعر كان أعلى من سعر السوق الموازية في ذلك الوقت. قد يبدو هذا الإجراء غير منطقي للوهلة الأولى، حيث أن السعر الرسمي عادة يكون أقل من سعر السوق السوداء. ومع ذلك، يمكن تفسير هذه السياسة بأنها محاولة استباقية لكبح جماح المضاربات المحتملة على الليرة. فمن خلال تحديد سقف رسمي مرتفع نسبيًا، سعت السلطة النقدية إلى إرسال إشارة بأنها لن تسمح بانهيار العملة مجددًا، ووضعت حدًا نفسيًا وماديًا للمضاربين الذين قد يسعون للاستفادة من التقليدات.

على الرغم من الانتقادات التي وجهت لهذه السياسة فقد نجحت بشكل ما في تحقيق قدر من الاستقرار النسبي في تلك المرحلة الحرجة، عبر تثبيت توقعات السوق ولو بشكل مؤقت.

إدارة السيولة وسعر الصرف: تحديات المرحلة الانتقالية

مع بداية المرحلة الانتقالية، واجهت الإدارة النقدية الجديدة تحديات كبيرة، أبرزها أزمة سيولة حادة وتدهور الثقة بالنظام المصرفي. لذلك قامت إدارة المركزي منذ اليوم الأول لها بتبني سياسة نقدية انكماشية بهدف السيطرة على التضخم ودعم الليرة من خلال الحد من المعروض النقدي، هذا التوجه الذي شمل تجنب طباعة عملة جديدة في البداية، أدى إلى نقص حاد في السيولة بالليرة السورية، مما صعب على المواطنين والشركات الوصول إلى أموالهم وتسيير معاملاتهم اليومية.

تزامنت أزمة السيولة مع استمرار العمل بالقرار السابق الذي حرر التعامل بالدولار، مما خلق وضعًا معقدًا. فبينما تحسنت الليرة في السوق الموازية بشكل ملحوظ في الأيام الأولى بعد التحرير (وصل سعر صرف اللبرة إلى 9000 ليرة مقابل الدولار)، فإن شح الليرة نفسها أعاق النشاط الاقتصادي. كما أن تحديد سعر صرف رسمي أعلى من سعر السوق (13,500 لبرة للدولار) أضاف طبقة أخرى من التعقيد، وإن كان بهدف لكبح المضاربات.

لاحقًا، ومع وصول شحنات من الأوراق النقدية المطبوعة مسبقًا في روسيا والبدء بصرف الرواتب ونقطت للمودعين، زادت الكتلة النقدية المتداولة من الليرة. هذا التطور، بالإضافة إلى عوامل أخرى مثل فتح باب الاستيراد بشكل مفاجئ وفرض رسوم جمركية على الواردات، أدى إلى عودة الضغوط على الليرة ليتراجع سعر صرفها مجددًا في السوق الموازية ليقرب من 11,000 لبرة للدولار، نلاحظ أيضًا في هذه المرحلة قيام المركزي بتحرير جزء من إيداعات المودعين ليبقى متحكمًا بكمية النقد المتداول في السوق بالعملة المحلية، أي أن المركزي بقي محافظًا على سياسته في التشديد النقدي. رغم التسهيلات التي قام بها، وذلك لمحاولته الموازنة بين كميات الليرة والدولار المتداولة.

نلاحظ خلال الأشهر التي تلت سقوط النظام أن المصرف المركزي وبسبب سياساته المتبعة للموازنة بين كميات الليرة والدولار المتداولة، ففي فترات زيادة سيولة الليرة، تميل السياسات نحو تقييد حركة الدولار أو زيادة الرسوم على الواردات، والعكس صحيح. ومع ذلك، ما زالت الثقة بالنظام المصرفي مهتزة، والسياسات المتبعة لم تنجح بعد في إعادة الأموال إلى القنوات الرسمية بشكل كامل.

في 23 من آذار 2025، اتخذ مصرف سوريا المركزي قرارًا بتوحيد كافة النشرات الصادرة عنه بالإضافة لتحديد سعر الصرف الوارد في الشرة الرسمية (الشراء والمبيع والوسطى) بناءً على دراسة واقع التغيرات في أسعار الصرف والمتغيرات الاقتصادية المحددة لها. كما تم منح المصارف المرخص لها التعامل بالقطع الأجنبي ومؤسسات الصرافة مرونة في إصدار نشرات أسعار الصرف الصادرة عنها، والتي تعامل بها مع الجمهور والمواطنين وفقًا لهامش الحركة السعري المحدد بشكل يومي من قبل مصرف سوريا المركزي، حيث يمثل هذا الهامش نسبة مئوية، غالبًا يكون بنسبة 5%.

وبسمح ذلك للمصارف ومؤسسات الصرافة التسعير أعلى أو أدنى من سعر الصرف الصادر عن مصرف سوريا المركزي ضمن هذا الهامش.

طبعًا هذا القرار أدى لتقليل هامش سعر صرف الليرة في السوقين الموازي والرسوم كما هو موضح في الرسم البياني المرفق، ويعتبر هذا تحولًا في سياسة المركزي السوري الذي تمكن من دراسة السوق النقدي بشكل أوضح خلال الفترة السابقة، وأصبحت لديه رؤية جيدة لكيفية الإدارة النقدية في البلاد. من خلال هذا القرار أيضًا استطاع المركزي ضبط السوق السوداء وشجع على التعامل مع القنوات الرسمية. في الحقيقة إن فهم هذه الديناميكيات المعقدة لسعر الصرف هو المفتاح لاقتراح آليات فعالة لتحقيق استقرار أكبر لليرة السورية.

ويمكن تبرير تأخر المركزي في إقرار هذا القانون بعدم امتلاكه للسيولة النقدية الكافية والتي تسمح له بالتدخل في الأسواق في حال حدوث مضاربات كبيرة على الليرة السورية، لكن مع وصول شحنات من الليرة السورية من روسيا وتحصيله لضرائب الواردات الكبيرة أصبح لديه مخزون كافٍ ليستطيع التدخل في السوق وتنفيذ سياساته النقدية ولا بشكل محدود.

رسم بياني بوضع التطور التقريبي لسعر صرف الليرة السورية مقابل الدوالر في السوق الموازية والسعر الرسمي، بناءً على البيانات المجمعة من المصادر المذكورة في المراجع للفترة كانون الأول 2024 - أيار 2025

رسم بياني بوضع التطور التقريبي لسعر صرف الليرة السورية مقابل الدوالر في السوق الموازية والسعر الرسمي، بناءً على البيانات المجمعة من المصادر المذكورة في المراجع للفترة كانون الأول 2024 – أيار 2025

بعد مرور شهرين على استقرار نسبي لسعر صرف الليرة، وانخفاض الفرق بين سعري الصرف الرسمي والموازي، أصدر البنك المركزي تعميميًا يلزم المصارف الخاصة العاملة في سوريا بتسليم جميع الودائع والحسابات الجارية للمتعاملين بشرط أن تكون قد أودعت بعد تاريخ 7 من أيار 2025. بدراسة تحليلية لهذه الخطوة نجد أن المركزي يريد بها استعادة بعض الثقة التي فقدها الجهاز المركزي في البلاد، ودمج مدخرات الناس في الجهاز المصرفي السوري للاستفادة منها لأكمال الدورة الاقتصادية، فمعظم مدخرات المواطنين عبارة عن عملات أجنبية أو معادن ثمينة يتم تداولها خارج المنظومة المالية السورية، طبعًا هذه خطوة جريئة، ولكنها محفوظة بالمخاطر خاصة إذا لم تستطع البنوك الخاصة الوفاء بالتزاماتها تجاه هؤلاء العملاء، عندما ستكون ضربة قاسية للجهاز المصرفي السوري الذي لا يحتمل المجازفة بالقرارات.

آليات مقترحة لتحقيق استقرار الليرة السورية

بالاستناد إلى تجارب الدول الخارجة من النزاعات والأدبيات الاقتصادية، يمكن اقتراح حزمة من الآليات المتكاملة التي قد تساهم في تحقيق استقرار أكبر للعملة السورية على المدى المتوسط والطويل:

  • اعتماد نظام سعر صرف مرن مُدار (Managed Float): في ظل ضعف الاحتياطيات الأجنبية وعدم اليقين الاقتصادي، قد يكون من الصعب تبنى نظام سعر صرف ثابت أو ربط العملة بشكل صارم. بالمقابل، فإن التعومم الكامل قد يؤدي إلى تقليلات حادة. لذا، يبدو نظام سعر الصرف المرن المُدار هو الخيار الأنسب للمرحلة الحالية، حيث يتدخل المصرف المركزي بشكل مدروس في سوق الصرف للحد من التقلبات المفرطة وتوجيه السعر نحو مستوى توازني يعكس الأساسيات الاقتصادية، مع السماح للسوق بلعب دور أكبر في تحديد القيمة. يتطلب هذا النظام شفافية في سياسات التدخل وأهداف واضحة للمصرف المركزي.
  • تعزيز استقلالية المصرف المركزي وشفافيته: يعد بناء الثقة في المصرف المركزي حجر الزاوية لتحقيق الاستقرار النقدي، لذلك يجب تعزيز استقلالية المصرف عن التأثيرات السياسية المباشرة في اتخاذ قرارات السياسة النقدية، مع زيادة الشفافية في عملياته وقراراته ونشر بيانات دورية حول الاحتياطيات الأجنبية والكتلة النقدية وأهداف السياسة النقدية، إن الشفافية تسهم في تثبيت توقعات السوق وتقليل المضاربات على العملة المحلية.
  • إعادة هيكلة القطاع المصرفي وحوكمته واستعادة الثقة: يعاني القطاع المصرفي السوري من ضعف هيكلي وأزمة ثقة عميقة، يجب العمل على إعادة هيكلة المصارف المتعثرة، وتطبيق معايير رقابية صارمة، وتطوير أنظمة الدفع والتنمية لزيادة كفاءتها وأمانها، كما أن الإفراج التدريجي والمدروس عن الودائع المجمدة بالتوازي مع تحسن السيولة ضروري لاستعادة ثقة المودعين.
  • ضبط المصروفات والواردات المالية العامة والتنسيق مع السياسة النقدية: لا يمكن تحقيق استقرار نقدي دائم دون ضبط الميزانية المالية العامة. يجب على الحكومة العمل على ترشيد الإنفاق العام، وتوسيع القاعدة الضريبية بشكل عادل، والحد من عجز الموازنة وتمويله عبر أدوات غير تضخمية، وأقترح هنا إصدار صكوك إسلامية بدلًا من الاقتراض المباشر من المصرف المركزي، كما يجب التنسيق الوثيق بين السياسيتين المالية والنقدية.
  • جذب المساعدات الخارجية والاستثمارات الخارجية: تلعب المساعدات الخارجية دورًا حاسمًا في دعم ميزان المدفوعات وتوفير العملة الأجنبية في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب. يجب على الحكومة الانتقالية العمل على حشد الدعم المالي من المانحين الدوليين والمؤسسات المالية (مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي)، وتهيئة بيئة استثمارية جاذبة لرؤوس الأموال الأجنبية والمحلية. أيضاً من المهم إدارة هذه التدفقات بحكمة وتوزيعها توزيعًا عادلًا على جميع القطاعات الاقتصادية والصناعية، ومراقبة التدفقات المالية لتحقيق استقرار أكبر بسعر صرف الليرة السورية.
  • تحفيز الإنتاج المحلي والصادرات: على المدى الطويل، يعتمد استقرار الليرة على قوة الاقتصاد الحقيقي. يجب تبني سياسات تدعم القطاعات الإنتاجية (الزراعة، الصناعة) وتشجع الصادرات لزيادة تدفق العملة الأجنبية وتحسين الميزان التجاري. يتضمن ذلك إزالة العوائق البيروقراطية، وحوكمة المؤسسات، وتوفير البنية التحتية اللازمة، ودعم الحصول على التمويل للمشاريع الإنتاجية.

في النهاية إن تطبيق هذه الآليات يتطلب إرادة سياسية قوية، وكفاءة فنية عالية، ودعمًا مجتمعيًا ودوليًا واسعًا. الطريق نحو استقرار الليرة السورية لن يكون سهلًا أو سريعًا، ولكنه ممكن من خلال تبنى نهج إصلاحي شامل ومستدام.


المراجع:

Anadolu Ajansı (aa.com.tr). (2024, December 18). Post-Assad Syrian Central Bank sets exchange rate around 15,000 pounds per dollar. 
Bahah, M. (2025, March 19). As EU eases restrictions, Syria grapples with a liquidity crisis. The New Arab. 

تلفزيون سوريا 23/4/2025 لائحة رسمية يومية.. مصرف سوريا المركزي يقرر توجيد نشرات أسعار الصرف الصادرة عنه

Economic Research Forum (ERF). (2014a). Aid, exchange rate regimes and post-conflict monetary stabilization. Working Paper 751. 
Economic Research Forum (ERF). (2014b). Exchange rate regimes for post-conflict recovery. Working Paper 748. 
International Monetary Fund (IMF). (2002). Restoring and Transforming Payments and Banking Systems in Post-Conflict Economics.

International Monetary Fund (IMF) Elibrary. Chapter 3: The Economics of Postconflict Countries: A Survey of the Literature.

Proximity International. (2025, February 12). Syria’s Economy in Transition: Stagnation Despite Currency Improvements
.SP-Today. US Dollar Exchange Rates history | Syrian Pound Today. Accessed May 3, 2025

Syria Direct. (2024, December 18). Minor improvement, increased demand: What comes next for /the Syrian pound? 

Syrian Future Movement (SFM). (2024, December 31). The Syrian Central Bank: Between Reality and Aspirations.

United Nations Development Programme (UNDP). (2008). Post-Conflict Economic Recovery: -Enabling Local Ingenuity.



مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة