منشقّو الإعلام.. طوبى للغرباء في بلادهم
علي عيد
منذ منتصف آذار 2011، رفع صحفيون سوريون أقلامهم وأطفؤوا كاميراتهم، وتوقفوا عن العمل في الإعلام الرسمي، في موقف واضح تجاه سياسات النظام ومخابراته وآلته الحربية، ومن المصادفات أن كثيرًا منهم ما زالوا أحياء، فقد وضعت أسماؤهم على لوائح الاعتقال، وقُتل بعضهم بالرصاص المباشر أو داخل المعتقلات.
وهؤلاء الصحفيون الذين عملوا في المؤسسات الرسمية، قسم منهم غطّى وكتب من داخل سوريا، كالقابض على الجمر، ومنهم من كان يخلط العمل الصحفي بالعمل الإغاثي أو التنسيق مع ناشطين ومواطنين لنقل الأحداث.
لا مجال لسرد ما فعله الصحفيون السوريون المنشقون، لكن يبدو أن هناك من لا يرى، أو من لا يريد أن يراهم جزءًا أصيلًا في الثورة.
للعلم، أذكر قبل أكثر من شهرين من الثورة نشاط صحفيين يعملون في مؤسسات الإعلام الرسمية وهم ينشطون أمام السفارتين المصرية والليبية ومبنى البرلمان وفي غير أماكن، طمعًا بأن تنطلق شرارة الثورة في سوريا، وكنت أصادف أو أسير مع كثير منهم في تلك التجمعات، وعندما اندلعت الثورة وجدتهم متظاهرين في درعا البلد ودوما وغيرها الكثير من الأماكن.
لقد كتبنا من داخل سوريا “روايات برائحة الدم” حين كانت أجهزة الأمن تقتل على النيات وليس على النشر الصريح، وشرحنا للعالم قصة فتية “جاك الدور يا دكتور“.
قُتل زملاء وأصدقاء كثر منهم مصعب العودة الله (جريدة تشرين) أمام أطفاله، والرسام أكرم رسلان (جريدة الثورة) داخل سجن “صيدنايا”، ومهران الديري (سانا) في درعا، والقائمة تطول، واعتقل العشرات من “سانا” والتلفزيون وغيرهما من وسائل الإعلام، كما تعرض المئات للتهديد بالقتل ووضعوا على لوائح منع السفر والاعتقال.
وعندما خرجوا من مناطق سيطرة النظام إلى مناطق النزوح وبلاد اللجوء، قدّموا مع زملائهم الناشطين نموذجًا فذًا، لا ينكره العالم، وذوو الخبرة منهم أداروا فرقًا للتحرير، وأنتجوا أفلامًا ووثائقيات، وكتبوا مقالات وقصصًا عن التعذيب والقتل والقصف ومعاناة الأهل في الداخل والخارج، كما أسهموا في تدريب ناشطين أو زملاء لينضموا إلى قافلة الإعلام الحر.
عملنا كصحفيين منشقين في أهم وسائل الإعلام العربية والدولية، وأنشأنا مع زملائنا الناشطين في المنفى مؤسسات ووسائل إعلام من العدم، وأسهمنا في تجارب بعضها استمر وبعضها الآخر أوقفته الصعوبات المادية أو بيئة العمل وتراجع الحريات في بعض الدول مع تغير سياساتها، لكننا لم نفقد الأمل ولم نتراجع.
خلال 14 عامًا، ذاق الصحفيون المنشقون عذابات لا آخر لها، وما زالوا، فقدوا أحبابًا وزملاء وبيوتًا وذاكرة، عاش معظمهم بلا موارد رزق، وتحكم فيها من لا يجب أن يحكمهم، وضاعوا في أربع رياح الأرض.
بعد 8 من كانون الأول 2024، مررت بوكالة “سانا”، ويعرف من تركها ومن بقي فيها قصتي وزملائي المنشقين معها. وقفت نحو ربع ساعة أنتظر عند باب الدخول حتى يأذن لي موظف الاستعلامات زيارة المؤسسة التي خرجت على خطابها على رؤوس الأشهاد، دخلت حزينًا كغريب، وكنت لا أودّ زيارتها.
بعد فترة ذهبت طالبًا ما يشير إلى أنني لم أعد موظفًا فيها، بناء على طلب شرطي الحدود، وكنت أكثر حزنًا، رأيت وجوهًا لا أعرفها وأخرى أعرفها، لم تكرمني تلك المؤسسة التي تحررنا منها لنحررها، بل كانت معاملة إثبات فصلي بقرار من أجهزة الأمن تحتاج لدفع المال، لقد فصلني النظام كما فعل مع زملاء لي لأننا قلنا لا، ولأننا ثرنا على الأكاذيب، وطلبت مني إدارة العهد الجديد أن أبرئ ذمتي من فعل الثورة، ويكفيني أن أقف على بوابة الوكالة الخارجية لتتلقفني الخيبة.
لم نتوقف عند خروجنا من سوريا، وما قمنا به واجب لا منّة فيه، وقد يستغرب البعض إن قلت إنني لم أرغب يومًا بالعودة إلى “سانا” بسبب الرعب الذي عشته فيها، ولكم أن تتخيلوا مؤسسة إعلامية يحمل فيها الصحفيون العصي لضرب المتظاهرين أمام الجوامع، ويحمل بعض صحفييها البنادق فوق رؤوس زملائهم.
قال لي أحد صحفيي “سانا” ذات يوم، “سنشنقكم من بيضاتكم” (وكان يقصد الصحفيين الذين ناهضوا النظام ورفضوا خطابه) في ساحة المرجة، وها قد عدنا وغنينا في الساحة التي يفترض أن نشنق فيها، منتصرين مثل كل السوريين الأحرار، ومهزومين مثل معظم الصحفيين المنشقين.. فطوبى للغرباء في بلادهم.. وللحديث بقية.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :