تعا تفرج

تكويع سياسي استراتيجي كبير

tag icon ع ع ع

خطيب بدلة

لا تُبقي، جحافلُ “السوشيال ميديا”، ولا تذر شاردة، أو واردة، إلا وتشبعها تعليقًا وتمحيصًا وتداولًا.. فمن كثرة هذه الوسائل، وتنوعها، ونهمها للكلام، والنشر، أصبحت كموقد حَمَّام السوق، “القَمّيل”، الذي كلما دسست فيه حطبًا، وعشبًا يابسًا، وأحذية بالية، ودواليب سيارات عتيقة، فتح لك شدقه، وسألك: هل من مزيد؟

أعتقد أن القسم الأكبر من المناوبين على هذه الوسائل، لم ينتبهوا للتحولات الكبرى التي تجري في العالم، وفي منطقتنا المنكوبة، وأن هذه التحولات ستؤدي، حتمًا، إلى تغيير مواقف الشخصيات المؤثرة، وأصحاب الأسماء المعروفة في السياسة، والأدب، والفن.. ولذلك أصابتهم الدهشة وهم يرون رجلًا، كانت له وظيفة رفيعة المستوى في أيام حكم الأسدين، وكان يدافع عن ذلك النظام ببسالة، ويتهم معارضيه بأنهم “دواعيش”، ذوو أجندات خارجية، واليوم هو من عتاة المدافعين عن الجماعات التي كان يهجوها، ويتهمها بالعمالة!

ظهر لدينا، خلال السنوات الـ14 الماضية، قوس قزح من التباينات في المواقف، ومن تغيير المواقف الذي أطلقوا عليه اسم “التكويع”، فإذا تركنا تكويع الشخصيات التافهة، الهزيلة، جانبًا، سنصل إلى التكويع السياسي، الاستراتيجي، الذي مارسته الحكومة الجديدة نفسها، فقد مر على هذه الجماعات الجهادية ردح من الزمن وهي تلصق بمعارضيها تهمة العمالة لأمريكا، وإسرائيل، ليس من خلال تصريحات قادتها وحسب، بل ومن خلال التحقيقات التي كان يتعرض لها المعتقلون في سجونها، حتى قيل إن المعتقل الذكي، اللماح، هو الذي يستطيع إقناع المحققين بعدائه للأمريكان، وحماسه المنقطع النظير للجهاد إلى جانب إخوتنا الفلسطينيين، والدفاع عن حقوقهم التي اغتصبها شذاذ الآفاق، الصهاينة!

في خضم هذه التحولات التاريخية الكبرى، يصبح ما يسمى “التكويع” مأثرة تدل على ذكاء المكوع، وحنكته، ومقدرته على حسن التصرف في مواجهة القوى العاتية، المتحكمة بمصائر الشعوب في هذه البلاد المنكوبة، وكلما تمكن من إسكات الأصوات التي كانت تعادي هذه القوى العاتية، وطي الشعارات والهتافات التي تم تداولها في أيام “الثورة” على نطاق واسع، وأبرزها “ع القدس رايحين/شهداء بالملايين”، أصبح مقبولًا لدى العدوين السابقين “أمريكا وإسرائيل”..

تحضرني، هنا، فكرة، أعتقد أنها مهمة، وهي أن هذا النوع من التكويع الكاريكاتيري، يناسب المجتمعات المحكومة بأنظمة دكتاتورية صلبة، ففي أيام الحصار على نظام صدام حسين، قبل 2003، كانت منظمة حظر الأسلحة الكيماوية تطالب العراق بأن يسمح بتفتيش منشآته العسكرية، وعندما كان صدام يرفض الطلب، تنطلق مظاهرات شعبية حاشدة، تؤيده، لشجاعته، وحرصه على السيادة الوطنية العراقية، وبعد أيام قليلة فقط، يوافق صدام حسين على السماح للمنظمة بالتفتيش، فتنطلق المظاهرات نفسها، وربما شارك فيها الأشخاص أنفسهم، لتؤيد حكمة القائد، وحنكته السياسية، فهو، بهذه الموافقة، يوجه رسالة قوية للمجتمع الدولي، ملخصها أن العراق لا يمتلك أي نوع من هذه الأسلحة التي تزعم الولايات المتحدة كذبًا، وزورًا، أنها موجودة لديه، والماء، كما يقول المثل، يكذب الغطاس.

في البلاد الديمقراطية، يقول الإنسان رأيه بصراحة، ووضوح، ويستحيل أن يغير رأيه بسبب الخوف من غضب السلطات. فهل سيأتي يوم نكون مثلهم؟



مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة