لكي لا ننحدر مجددًا إلى الهاوية

tag icon ع ع ع

غزوان قرنفل

هل يصدق أحد أن شعبًا كاملًا من الممكن أن يتوجه بملء إرادته وكمال وعيه إلى الهاوية وهو يراها أمامه ومع ذلك يستمر بالسير نحوها؟ وهل يصدق أحد ممن يقرأ تلك السطور من السوريين عمومًا أن هذا الشعب هو نحن؟

حقًا هي واحدة من أعاجيب الحياة، والتاريخ، وأعاجيب السوري الذي يصر دائمًا على أن يصفّر عداد حياته ليبدأ من جديد، ليجرّب مرة تلو مرة، وفي كل مرة تخذله التجربة ويفشل في صناعة العجلة التي لا يحتاج إلى صناعتها أصلًا بالنظر إلى وجودها وسبق إنتاجها.

وهل تعرفون لماذا نفشل؟ لأننا لا نراكم معرفة ولا تجارب، ونصر دائمًا على البدء من الصفر وبذات الأدوات والرؤى والأفكار، ومع ذلك نتوقع وننتظر نتائج مغايرة! نصر دائمًا على أن ننطح الجدار لنكمل مسيرنا بينما لدينا خيار الالتفاف حوله، هل من حمق أكثر من هذا الحمق؟

دائمًا ما نكتب ذات الكلام ولكن بصيغ أخرى، وربما بعبارات أكثر تهذيبًا، وأخف وقعًا على القارئ، الذي غالبًا ما تبرّم وأبدى تذمره من أننا نبث اليأس ونشيع الإحباط بين الناس المبتهجين بفرحة النصر ونشوته ولا يريدون سماع شيء آخر، كما لا يريدون رؤية الحقائق العارية التي لم تعد تخجل أو تحاول أن تواري سوأتها وهي تحاول أن تصفع وجوهنا علّنا نصحو وهي تقول لنا إن الطريق الذي تسلكونه هو باتجاه واحد نحو الهاوية، ومع ذلك نعاند ونكابر ونصر على اتباعه.

 والحقيقة أن القارئ ليس غير عابئ بما يجري حوله، وربما يعتبر أنه حقق نصره المبتغى وانتهى الأمر هنا بالنسبة إليه، وتلك مصيبة أخرى سنحصد نتائجها جميعًا وهو في المقدمة منّا، بل صار معظم القراء جلادين، ما إن يقرؤوا نقدًا للسلطة الجديدة حتى يمتشقوا سياطهم ويبدؤوا بجلد الكاتب وأهله وسلالته حتى زمن النبي نوح ومن نجا معه ممن يفترض أنهم من الصالحين، بل يسلخوا جلد المنصة أو الصحيفة التي أتاحت لهذا الكاتب الخائن أو ذاك صفحاتها ليدلي برأي أو رؤية، ويطعنوا في وطنية كل هؤلاء ويصنفوهم كعملاء ومتمولين وأعداء للوطن، حتى ليستغرب الإنسان ويسأل نفسه، أيعقل أن هؤلاء كانوا جزءًا من ثورة شعب طلب الحرية والعدل وسيادة القانون؟ وهل ما يحصل أمامهم ينسجم مع قيم العدل والحرية ولا يستأهل أو يوجب نقده؟

معظم القراء صار مهتمًا أكثر بقراءة ما تكتب، ليس بحثًا عن معرفة أو تبين لمعلومة أو حتى اطلاع على رأي، حتى لو كان مغايرًا لرأيه ليثري مساحة معارفه، هو يقرأ ليضبطك متلبسًا بجريمة انتقاد السلطة الجديدة أو تعرية سياساتها أو أدائها أو قرارا لها، أو متلبسًا بجريمة الانحياز للمطالب المشروعة لأقلية ما أو رفض اضطهاد أقلية أخرى وهو ما يؤكد خيانتك “لسنيّتك” واصطفافك مع بقايا الفلول أو مع الأقليات “الخائنة” التي تتوسل دعمًا خارجيًا ضد السلطة الجديدة التي “حررت” لنا سوريا!

وعلى سيرة “التحرير” الذي يصفعنا فيه المطبلون للسلطة الجديدة على وجوهنا وينسبون فضله لأولئك المجاميع المسلحة التي “فتحت” دمشق، فإنه صار لزامًا علينا أن نذكّر ونفرد مساحة لبعض الحقائق، وهو أن واقعة “التحرير” بذاتها لم تكن إلا ثمرة لنضال الكثير من المخلصين السوريين المدني والعسكري والحقوقي، وليس شيئًا صنعته قوة “التحرير” بذاتها دون تلك العوامل.

عمليات الانشقاق عن سلطة النظام هشمت شرعية النظام، المواجهات العسكرية مع جيش النظام أخرجت مناطق واسعة عن سلطة النظام، المظاهرات والحراك المدني طعن شعبية النظام المزعومة في مقتل، الحراك الحقوقي وتوثيق الجرائم والانتهاكات ومقاضاة الكثير من رموز وأعوان النظام في المحاكم الأوروبية أضعف إمكانية إعادة تأهيل النظام، صور “قيصر” أجبرت الدول الكبرى على فرض عقوبات قاسية على النظام وأضعفت قدراته المالية كثيرًا وحدت من إمكانية استعادته السيطرة على البلاد، كل هذه عوامل لا يمكن تجاهلها في تقويض قدرة النظام على الاستمرار أكثر لتأتي الضربة القاضية بعد ذلك من “هيئة تحرير الشام” وبعض التشكيلات العسكرية الأخرى المتحالفة معها، ودون أن ننسى أبدًا أن عملية “7 أكتوبر” وما تبعها من حرب على غزة و”حزب الله” والميليشيات الإيرانية في سوريا من أهم العوامل التي جعلت قرار إسقاط النظام، والسماح لـ “هيئة تحرير الشام” بفعل ذلك، ممكنًا وبتوافق إسرائيلي وأمريكي وتركي وروسي، وإلا ما كنا لنشاهد أرتال سيارات المقاتلين تمشي مسافة 400 كم دون أن يمسسها سوء أو يطولها قصف من طائرة. لذلك لا يمكن ولا يجوز لأي جهة أن تزعم أو تحتكر فعل التحرير والانتصار وتنسبه خالصًا لنفسها وترميه في وجوه السوريين، لتقول لهم: يكفي أننا حررناكم من سلطة استباحت حياتكم ومدنكم وأنتم قاعدون، فحق لنا أن نحكم الدولة وننفرد بذلك لأن “من يحرر يقرر”.

خلاصة القول، إن السوريين وقد مضى على سقوط النظام أكثر من نصف عام، قد سقط معظمهم في الامتحان الوطني حتى الآن، رغم أنه لم يفت الأوان بعد، ولا يزال ممكنًا جبر ما انكسر، ولا يزال ممكنًا جسر الهوة بين مكونات الشعب السوري، ولا يزال ممكنًا إفساح المجال للشراكة الوطنية، ولا يزال ممكنًا أن نتحاور بالكلام لا بالرصاص، ولا يزال ممكنًا أن نبقى سوريين دون أن نبحث عن ملاذ آمن في طوائفنا ومذاهبنا وقبائلنا ومناطقنا، فهذه كلها ملاذات حماية مؤقتة لا ملاذات أمان دائم، وعلينا جميعًا، والسلطة تحديدًا في المقدمة، أن نحافظ معًا على تلك الممكنات ولا نحولها إلى مستحيلات.

جميعنا معنيون ومهتمون بأن نخرج بلدنا من القاع الذي وصلت إليه، ومن مقتضيات ذلك أن يشعر السوريون جميعًا أن هذا البلد وتلك الدولة ملكهم جميعًا، لهم فيها حقوق أصيلة واحدة ومتماثلة، وأنهم مواطنون فيها لا رعايا، وبالتالي شركاء في رسم ملامح دولتهم وتحديد شكل سلطتهم، مشاركون فيها لا غرماء، وترجمة ذلك لا تكون إلا بمكاشفة وحوار وطني واسع يميط اللثام عن الهواجس ويستجيب لموجبات تبديدها، وبإعادة صياغة المحددات الدستورية لشكل السلطة وحدودها وآليات ممارستها وإفساح المجال والآليات اللازمة للمشاركة فيها، أما خلاف ذلك والإصرار على التفرد واحتكار السلطة ومركزيتها الصارمة وتوسل الشرعية والاعتراف من الخارج وتجاهل وإهمال شركاء الداخل، فهذا لا يفضي للخروج من حالة الاستعصاء الوطني، ولا يجعل السلطة انعكاسًا لإرادة السوريين جميعًا بل تعبيرًا فظًا عن إرادة الخارج الذي تتوسل شرعيتها منه فحسب، وهو خيار من يسير بكل بلاهة وغباء إلى الهاوية.



مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة