
سوق القيمرية بدمشق في وقفة عيد الأضحى - 5 حزيران 2025 (عنب بلدي/ أنس الخولي)
ملهم جزماتي
أصدر الرئيس السوري، أحمد الشرع، مرسومًا تشريعيًا يقضي بزيادة الرواتب والأجور المقطوعة بنسبة 200% لجميع العاملين بالدولة، في خطوة تهدف إلى تحسين الأوضاع المعيشية للمواطنين، لكنها تثير تساؤلات جوهرية حول قدرة الاقتصاد السوري على تحمل هذه الزيادة دون تفاقم الأزمة التضخمية.
تشمل الزيادة العاملين المدنيين والعسكريين في الوزارات والإدارات والمؤسسات العامة، وشركات ومنشآت القطاع العام، والوحدات الإدارية، بالإضافة إلى جهات القطاع المشترك التي لا تقل نسبة مساهمة الدولة فيها عن 50% من رأسمالها. كما يشمل هذا القرار مختلف أنواع العاملين المؤقتين والمتعاقدين، بشرط ألا يزيد راتبهم التعاقدي عن راتب الموظف الدائم من نفس المؤهل. ونص المرسوم أيضًا على رفع الحد الأدنى العام للأجور والحد الأدنى لأجور المهن لعمال القطاع الخاص والتعاوني والمشترك ليصبح 75,000 ليرة سورية شهريًا.
على الرغم من أن الزيادة بنسبة 200% تبدو كبيرة اسميًا، فإن الاقتصاد السوري يعاني من تضخم مفرط وتدهور مستمر في قيمة الليرة السورية. إذا لم تترافق هذه الزيادة مع إجراءات حقيقية لضبط الأسعار وزيادة الإنتاج المحلي، فإن قيمتها الشرائية ستتآكل بسرعة، وقد لا يشعر المواطن بتحسن كبير في مستوى معيشته على المدى الطويل.
النقطة الأبرز في المرسوم هي أن الزيادة لا تسري على العاملين المدنيين والعسكريين المشمولين بأحكام قانون العاملين الأساسي رقم “53” لعام 2021 الصادر عن “حكومة الإنقاذ السورية (سابقًا)”. هذا يعني أن الموظفين الذين كانوا يتبعون الإدارة السابقة في مناطق مثل إدلب مستثنون من هذه الزيادة المباشرة. يبدو أن هذا الاستثناء نتيجة رغبة الحكومة في توحيد رواتب وأجور العاملين في مختلف أرجاء سوريا، فمتوسط الرواتب والأجور في مناطق النظام سابقًا والذين شملهم المرسوم يبلغ قبل الزيادة 30 دولارًا وسطيًا، في حين أن متوسط الرواتب والأجور في مناطق حكومة الإنقاذ سابقًا يبلغ 125 دولارًا وسطيًا. بعد تطبيق الزيادة، ستصبح رواتب موظفي مناطق النظام السابق حوالي 90 دولارًا، مما يقلل الفجوة مع رواتب موظفي مناطق الإنقاذ السابقة. طبعًا يجب ملاحظة أن هناك العديد من العاملين تم توقيفهم عن العمل، كما أعلنت الحكومة عن وجود العديد من الأسماء الوهمية تتقاضى رواتب إبان النظام البائد، ولكن لا يوجد أرقام دقيقة عن عدد هؤلاء الموظفين الذين تم شطبهم مؤخرًا.
اختلاف سلم الرواتب بين المنطقتين يخلق نظامًا مزدوجًا للرواتب داخل دولة واحدة، وهذا أمر سلبي جدًا، كما له آثار سلبية على المستوى الاجتماعي، ويخلق شعورًا بالظلم. لكن محاولة توحيد هذا النظام تتطلب وقتًا وتدرجًا في التطبيق لتجنب الصدمات الاقتصادية والاجتماعية.
تضمن المرسوم نقطة مهمة جدًا، وهي إعطاء وزير المالية صلاحية اتخاذ القرار في تمويل هذه الزيادة. من المعلوم أن جزءًا من هذه الزيادة سيتم تمويله قطريًا عبر المنحة التي قدمتها قطر للحكومة السورية بهدف زيادة الرواتب والأجور للعاملين في القطاع العام في سوريا. بالعودة إلى إعلان الحكومة السورية عن المنحة القطرية، فقد رافق الإعلان وعد قطعته الحكومة بزيادة الرواتب والأجور للعاملين في القطاع العام بنسبة 400%، على أن تتم هذه الزيادة على مراحل.
مع الأخذ بعين الاعتبار عدد العاملين في القطاع العام السوري البالغ 1.25 مليون عامل حسب تصريح وزير المالية في الحكومة الانتقالية السابقة محمد أبا زيد، ويتقاضى كل عامل راتبًا قدره 30 دولارًا وسطيًا، وبعد الزيادة سيصبح 90 دولارًا، نجد أن إجمالي فاتورة الرواتب ستصبح 112.5 مليون دولار شهريًا. أي أن الحكومة ستواجه عجزًا إضافيًا في تغطية الرواتب والأجور بعد الزيادة بمقدار 75 مليون دولار شهريًا. إذًا ما هي المصادر التي سيعتمد عليها وزير المالية في تغطية هذا العجز، مع ملاحظة أن الحكومة ما زالت حتى الآن تواجه مشاكل في تمويل الرواتب والأجور قبل الزيادة، ويتضح ذلك من خلال تأخر تحويل هذه الرواتب، وهذا التأخر يصل لأكثر من شهر في حالات كثيرة.
اقتصاديًا، لدى الحكومة السورية خياران لتغطية هذا العجز في ظل بقاء الناتج القومي الإجمالي على حاله، وعدم تطوير وسائل الإنتاج، وعدم وضوح الخطة الاقتصادية حتى الآن. الخيار الأول هو طباعة المزيد من العملة السورية، فإذا لجأت الحكومة إلى طباعة كميات إضافية من الليرة السورية لتمويل هذه الزيادات (وهو سيناريو محتمل في ظل شح الموارد الأخرى)، فإن ذلك سيزيد من المعروض النقدي دون زيادة مقابلة في السلع والخدمات. هذا سيؤدي مباشرة إلى تدهور قيمة الليرة السورية مقابل العملات الأجنبية، ومن المعلوم أن تدهور قيمة الليرة يجعل الواردات التي تعتمد عليها سوريا بشدة للغذاء والوقود والمواد الخام أكثر تكلفة، مما يغذي التضخم المستورد.
أما الخيار الثاني والأكثر منطقية وواقعية، فهو تمويل هذا العجز عن طريق المنح والمساعدات الدولية. هذه المساعدات ستساعد بكل تأكيد الخزينة السورية على زيادة احتياطاتها من النقد الأجنبي، وتجنيبها طباعة المزيد من العملة المحلية، ما يؤدي إلى تجنب الآثار التضخمية التي ذكرناها آنفًا. لكن هذا الخيار يتطلب التزامًا دوليًا مستمرًا، وهو ما قد لا يكون مضمونًا على المدى الطويل.
تجارب دول مجاورة مرت بظروف مشابهة تظهر دروسًا مهمة. في لبنان، أدت زيادة الرواتب دون إصلاحات هيكلية إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية. في العراق، ساعد الاعتماد على المساعدات الخارجية في استقرار الرواتب مؤقتًا، لكن دون حل جذري للمشاكل الاقتصادية. أما في الأردن، فقد حقق التدرج في الإصلاحات مع الدعم الدولي نتائج أفضل وأكثر استدامة.
كلف المرسوم وزير المالية بتعديل جداول الأجور وإصدار التعليمات التنفيذية اللازمة، بما في ذلك تحديد مصدر تمويل هذه الزيادة. يبدأ العمل بالمرسوم اعتبارًا من أول الشهر الذي يلي تاريخ صدوره (أي في 1 من تموز 2025). هنا يجب التأكيد على ضرورة الإسراع في إصدار التعليمات التنفيذية للقرار، لأن الحاجة إلى تعديل جداول الأجور وإصدار تعليمات تنفيذية من قبل وزير المالية قد تؤدي إلى تأخير في التطبيق أو ظهور بعض التعقيدات البيروقراطية، وعدم فقدان الثقة في المنظومة الاقتصادية السورية.
وبينما تهدف زيادة الرواتب إلى تخفيف المعاناة الاقتصادية للمواطنين، فإنها في غياب خطة اقتصادية شاملة لزيادة الإنتاج المحلي، واستقرار العملة، وتأمين مصادر تمويل مستدامة (مثل الاستثمار الأجنبي أو زيادة الصادرات أو المساعدات الكبيرة)، من المرجح أن تفاقم الضغوط التضخمية الشديدة في سوريا. قد توفر هذه الزيادة راحة مؤقتة، لكن التأثير طويل المدى سيكون على الأرجح مزيدًا من تدهور قيمة الليرة السورية واستمرار تآكل القوة الشرائية للمواطن العادي.
يعتمد نجاح هذا الإجراء في تحسين مستويات المعيشة بشكل حقيقي على قدرة الحكومة على السيطرة على التضخم وتحفيز الاقتصاد الحقيقي، وهو ما يمثل تحديًا هائلًا يتطلب رؤية استراتيجية واضحة ودعمًا دوليًا مستمرًا.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى