نقاط فوق الحروف وتحتها
غزوان قرنفل
يمكن القول إن الجريمة الإرهابية التي ارتكبت داخل كنيسة “مار إلياس” بدمشق يوم الأحد الماضي وخلّفت عددًا كبيرًا من الضحايا، بين قتيل ومصاب، قد رفعت مؤشرات التوتر في أوضاع البلاد، وأثارت المخاوف من أن تكون، لا قدّر الله، فاتحة لأعمال إرهابية لا تستهدف المسيحيين وحدهم بل مجمل البنيان الوطني، الهش أصلًا بقصد إدخال البلاد في نفق الاقتتال، وتدمير آخر فرصة، ربما، لإعادة اللحمة الوطنية إلى المجتمع والدولة السوريين.
هذه العملية الإرهابية لا يمكن قراءتها إلا بوصفها انتقالًا إلى عتبة جديدة أكثر خطورة ودموية، تضع السلطة أمام امتحان صعب لا تزال تؤجل خوض استحقاقاته وتحاول الإفلات من أداء موجباته، مترددة بين الوفاء لخلفيتها الجهادية التي تحاول خلع عباءتها شكلًا، وبين ضرورات الاستجابة لاستحقاقات وموجبات بناء الدولة على أسس مغايرة لعقيدتها السلفية المتطرفة، وتحاول بلا جدوى خلق نموذج هجين تفترض قدرتها على تسويقه دون الحاجة لأداء موجبات الشراكة الوطنية التي تقتضي فتح حوار وطني في العمق للتوافق على محددات وطنية ودستورية ترسم شكل تلك الشراكة، وترسم ملامح الدولة الجديدة وطبيعة نظامها السياسي والإداري والتوازن الطبيعي بين السلطات، وتطيح بفكرة التفرد والاستئثار تحت أي مبرر أو مسمى، وإلا فإن الرصيد المتبقي لتلك السلطة سيتآكل يومًا بعد يوم إذا ما ظلت تفترض خطأ إمكانية بناء دولة عصرية يتعايش فيها الفكر السلفي وفهمه ورؤيته للدين والحكم، ورؤيته للدولة ووظيفتها، وستتآكل معه إمكانية التعايش والشراكة الوطنية والحفاظ على سلامة البلاد ووحدتها.
لست في وارد الولوج في جدل يتعلق بأفكار السلفية التي تكفّر كل ما هو مختلف، والتي هي أصلًا دخيلة على المجتمع السوري وليست جزءًا أصيلًا من مكونات هذا المجتمع، على الرغم من كونها القوة المسيطرة الآن على السلطة في البلاد بدعم من قوى إقليمية ودولية، تقاطعت مصالحها على تمكين تلك الفئة لأداء دور يستجيب لتلك المصالح أكثر مما يستجيب لمصالح السوريين أنفسهم، ومع ذلك هذا لا يعطيها الشرعية الوطنية الكاملة، لأنها على النقيض من فكرة الدولة نفسها، وعلى الضد من فكرة المواطنة والحقوق المتساوية بين أفراد المجتمع بكل تلويناته ومكوناته. لكن سأقول إن تلك الجريمة والعتبة الدموية التي أراد منفذوها الوصول إليها تنبئ بخطر وجودي، لا على السوريين المخالفين لرؤى هؤلاء فحسب، ولا على الوطن السوري نفسه، بل حتى على السلطة نفسها، التي رأى جزء من مكوناتها العسكرية أنها خالفت المشروع الجهادي الأساس الذي انطلقت منه لمواجهة وإسقاط نظام الأسد ومفرزاته الطائفية، لا لإقامة دولة القانون والمواطنة، بل لإقامة إمارة إسلامية تحكم “بما أنزل الله” وتكون نواة ومنطلقًا لجهاد عابر للحدود ليس للسوريين فيه ناقة ولا جمل.
وسواء أكان الفاعل منتميًا حقًا إلى “سرايا أنصار السنّة” الذي أعلن تبنيه لتلك الجريمة، أو كان من المنتمين لخلايا “داعش” التي أعلنت وزارة الداخلية عن اعتقال مجموعة منهم وضبطت أسلحة ومتفجرات وأجهضت ما قالت إنه تحضيرات لجريمة أخرى، فإن المشكلة لا تكمن هنا، بل تكمن في التطرف الديني الذي بدأت مؤشراته وتبدياته تتصاعد داخل بنية المجتمع السوري، والذي لا ترى فيه السلطة الحالية مشكلة جوهرية يتعين التصدي لها، بل ربما تراه فرصة لترسيخ نفوذها، ولا أعتقد أنها في وارد مواجهته حتى لو أرادت فعل ذلك، لأن كل مكوناتها العسكرية والأمنية تتغذى من تلك البيئة الفكرية وتتخذه منهجًا لعملها.
فكرة “الشيخ” نفسها، التي تُسمع هنا وهناك ضمن مؤسسات الدولة ولا نعرف ماهية الوظيفة التي يشغلها هذا “الشيخ” والصلاحيات التي يملكها، ولا أحد يعرف صفته وحدود دوره في تلك المؤسسات، والتي تؤدي في حالات قرأتها إلى اعتداء على مواطن لأنه ركن سيارته في الشارع العام وتبين أن المكان مخصص لـ”الشيخ”، وحالة أخرى طلب فيها “الشيخ” من سيدة موظفة في إحدى الدوائر الرسمية أن تتحجب أو تغادر الوظيفة وأمهلها يومين لفعل ذلك. هذه الفكرة بحد ذاتها هي اعتداء على الدولة وانتهاك لسلطان القانون والدستور، واحتلال لمؤسسات الدولة بغير صفة أو حق، فهل هذا واحد من مؤشرات الانتقال من مرحلة الثورة إلى مرحلة بناء الدولة كما تراها السلطة الحالية؟
على أي حال، مجددًا ودائمًا نحتاج على ما يبدو للتذكير بأن ما يجري ليس أكثر من مقامرة بسوريا وعليها، وأن بناء الدولة الجديدة يحتاج لوضع بضع نقاط فوق الحروف وتحتها لتكون العبارات واضحة لا لبس فيها، وأولاها هو القول: إن ما تفعله السلطة وما تشتغل عليه حتى الآن لا يؤسس لدولة بل يؤسس لسلطة تقوم على الغلبة والإكراه، وهو ما يعيدنا جميعًا لنقطة هي ما دون الصفر الذي انطلقنا منه ابتداء لمواجهة طغيان سلطة الأسد.
وإن بناء الدولة يبدأ بالتأسيس لشراكة وطنية تجمع كل السوريين على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم على قيمة عليا اسمها “وطن لجميع أبنائه”، يمنحهم حقوقًا متساوية، وهذا لا يتم إلا بحوار ومكاشفة في العمق تطرح فيها كل الهواجس والأفكار والتصورات عن الشكل الأمثل لتلك الشراكة.
وإن بناء الدولة يقتضي أن تؤطر كل تلك التوافقات الوطنية ضمن دستور وطني، يشارك كل الطيف السوري بصياغته، لا يكرس طغيانًا لفئة على أخرى، ولا لسلطة على سلطة، ويعزز ويحمي قيم الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية.
وإن بناء الدولة لا يقتضي بالضرورة البقاء على نمط أو طراز معتاد على مركزية مفرطة لصناعة القرار والسياسات، وخاصة فيما يتعلق بالشؤون المحلية للمدن والمحافظات والمناطق، وإن البحث عن نمط مغاير لفكرة المركزية في الحكم، والانتقال إلى توزيع سلطة الشراكة الوطنية في صناعة القرار ربما هي حقًا الصيغة الأمثل والأكثر نجاعة لإدارة شؤون الناس والاستجابة لموجبات إشراكهم في صناعة القرار.
وإن بناء الدولة، أخيرًا، يقتضي إشراك الكفاءات الوطنية في مختلف مؤسسات الحكم والإدارة بصرف النظر عمّا به يؤمنون، وعمّا إليه ينتمون.
أعتقد أنه آن أوان المراجعات والتفكر والتدبر، فالعودة عن الخطأ خير من التمادي فيه، وسوريا تحتاج للانتقال إلى عتبة بناء الدولة وتستأهل ذلك، لا إلى عتبة الدم التي يسعى كثير من الجهلة إلى جعلنا خراف أضاحٍ تُسفح دماؤها على مذبح التطرف.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :