بين الرغبة والمخاوف  

مستثمرون سوريون يدرسون العودة إلى حلب رغم العراقيل

المنطقة الصناعية بحي الكلاسة في مدينة حلب - أيار 2025 (عنب بلدي)

camera iconالمنطقة الصناعية بحي الكلاسة في مدينة حلب - أيار 2025 (عنب بلدي)

tag icon ع ع ع

عنب بلدي – محمد ديب بظت

صورة غير واضحة للعديد من السوريين الراغبين في العودة إلى مدينة حلب للاستثمار، فمع استعادة المدينة بعض نبضها التجاري، لا تزال تعاني ثقل الدمار، وتفتقر إلى البنية التحتية التي تعد شرطًا لأي مشروع اقتصادي قابل للحياة.

محمد المصري، سوري مقيم في مدينة اسطنبول التركية، أبدى لعنب بلدي رغبته بافتتاح مكتب للسياحة العلاجية في حلب، لكنه أشار إلى وجود عدة معوقات، من بينها ضعف البنية التحتية، وغياب شبكة فنادق أو وسائل نقل حديثة، إلى جانب المخاوف الأمنية المستمرة.

ويرى المصري أن السياحة العلاجية يمكن أن تكون مدخلًا لإنعاش القطاعين الطبي والسياحي في آن واحد، لكنه يؤكد أن المدينة تفتقر إلى شبكة فنادق حقيقية، ما يصعّب استقبال المرضى القادمين من الخارج أو من مناطق أخرى داخل سوريا.

وقال إن السياحة العلاجية ليست فقط علاجًا، بل تتطلب إقامة مريحة، ونظافة، ووسائل نقل مناسبة، وأي خلل في هذه العناصر قد يُفشل المشروع من بدايته.

بنية تحتية هشة.. أسعار مرتفعة

لا تزال الكهرباء والمياه وشبكات الإنترنت في مناطق واسعة من حلب تعاني من ضعف شديد، ويتطلب تشغيل أي مشروع تكلفة إضافية إلى ضمان وجود مصادر طاقة بديلة.

إضافة إلى ذلك، تشهد الإيجارات في الأحياء التجارية أو القريبة من مركز المدينة ارتفاعًا غير متناسب مع طبيعة السوق، تفوق ما يُطلب في مدن أكثر استقرارًا.

يمتلك باسل محلًا قديمًا في الحي ذاته، ما يوفر عليه تكلفة الإيجار، إلا أن التحديات لم تغب عن مشروعه، إذ يواجه صعوبة في تأمين المواد الأساسية نتيجة ارتفاع أسعار المستلزمات، إلى جانب سوء الخدمات في المنطقة التي لا تزال تعاني من ضعف البنية التحتية.

ورغم الصورة الضبابية التي تحيط بواقع الاستثمار في حلب، قرر باسل العودة من تركيا وافتتاح محل للكهربائيات في حي الكلاسة، بعدما بات العمل في تركيا “غير مجدٍ”، على حد وصفه.

ويظهر مثال باسل أن بعض المستثمرين مستعدون لتحمل المخاطر والعودة، مدفوعين برغبة في الاستقرار أو نتيجة ضغوط اقتصادية في دول اللجوء، لكن التحديات الداخلية لا تزال حاضرة وبقوة، كما تعكس تجربته الوجه الآخر من المشهد الاستثماري في المدينة، حيث يصر بعض العائدين على خوض التجربة، مقابل تردد آخرين يفضلون الانتظار حتى تتضح الرؤية.

ولا تزال عودة رؤوس الأموال السورية إلى حلب مرهونة بجملة من الشروط، تبدأ بإعادة تأهيل الخدمات، ولا تنتهي بإعادة بناء الثقة القانونية والاقتصادية.

وبين الخوف والرغبة، ينتظر بعض المستثمرين إشارة تطمئنهم إلى أن العودة ممكنة دون أن تُصبح مغامرة غير محسوبة العواقب.

وجهة نظر المكاتب العقارية

“الأسعار لم تعد منطقية”، بهذه العبارة اختصر فاضل، صاحب مكتب عقاري في حي الميرديان، حال السوق العقارية في المدينة خلال الأشهر الأخيرة.

ورغم الحديث المتكرر عن فرص الاستثمار وإعادة الإعمار في حلب، يرى فاضل أن الواقع مختلف تمامًا، ويصفه بـ”الطارد”، خصوصًا مع الارتفاع الكبير في أسعار الأراضي والعقارات، وضعف الخدمات الأساسية، وتردي البنية التحتية.

وتشهد أسعار العقارات في عدد من أحياء حلب، مثل شارع النيل والموكامبو والجميلية، ارتفاعًا ملحوظًا.

وفي هذا السياق، قال “أبو أديب”، صاحب مكتب عقاري في حي الجميلية، إن هذا الارتفاع لا يقابله تحسّن في الخدمات أو في جدوى الاستثمار، فالكثير من المستثمرين الذين يتواصلون معهم يبدون حماسة في البداية، لكنهم يتراجعون بعد جولة ميدانية يرون فيها “الواقع كما هو”.

ويعتقد “أبو أديب” أن ما يعوق إقدام المستثمرين ليس فقط ارتفاع الأسعار، بل غياب المقومات الأساسية للاستثمار، موضحًا أن المستثمر لا يبحث عن قطعة أرض فحسب، بل عن طريق معبّد، وبنية تحتية متوفرة، ومشروع يمكن أن يحقق عائدًا مجديًا، وهو ما لا توفره المدينة في وضعها الحالي.

وأشار إلى أن عددًا من المستثمرين السوريين العائدين من الخارج تراجعوا عن ضخ أموالهم في مشاريع استثمارية، بعد “صدمتهم” من ارتفاع أسعار الأراضي حتى في الأحياء التي لا تزال تعاني من دمار جزئي أو نقص واضح في الخدمات.

ويعتبر أن البنية التحتية تمثّل عاملًا حاسمًا وأنها من بين الأسباب التي تعوق تدفق الاستثمارات، قائلًا إن معظم الأحياء تعاني من ضعف في البنية التحتية، إذ لا كهرباء مستقرة، ولا شبكة مياه فعالة، ولا طرقات مهيأة، وهذا كله يعمّق شكوك المستثمر حول فرص نجاح أي مشروع.

ويتساءل عن فائدة العقار إذا كانت الكهرباء لا تأتي سوى ساعتين، إذ إن أي مشروع سكني أو تجاري، مهما كان، لن ينجح من دون بنية تحتية حقيقية.

ويرى “أبو أديب” أن الفجوة بين الأسعار والعائد الاستثماري تمثل واحدة من أبرز العقبات في وجه الاستثمار، قائلًا إن من غير المنطقي أن تُباع الأرض بـ300 مليون ليرة مثلًا، في حين لا يتجاوز دخل المحل نصف مليون شهريًا، معتبرًا أن استمرار ارتفاع الأسعار دون وجود إنتاج فعلي يشكل خطرًا كبيرًا على أي بيئة استثمارية.

واعتبر أصحاب المكاتب العقارية الذين تحدثت إليهم عنب بلدي أن السوق بحاجة إلى “تخطيط لا شعارات”، فالحديث المتكرر عن إعادة الإعمار والاستثمار في حلب سيظل “مجرد خطاب إعلامي” ما لم تُتخذ خطوات عملية لضبط السوق وتنظيم الأسعار، خصوصًا في ظل الفجوة الكبيرة بين تكاليف العقار والعائد الاستثماري المحتمل منه.

وبينما تتحدث الجهات الرسمية عن مشاريع لتحسين الواقع الخدمي، تبقى السوق العقارية في حلب مرهونة بإجراءات فعلية تُعيد التوازن بين سعر العقار وقيمته الفعلية، وتُقنع المستثمر بأن المدينة جاهزة فعلًا لاستقبال رأس المال، لا لطرده.

توصيات من السوق

شدد عدد من أصحاب المكاتب العقارية والمستثمرين على جملة من التوصيات التي يمكن أن تسهم في تحريك السوق، أبرزها:

  • تنظيم السوق العقارية عبر تقييم حقيقي للأسعار، والحد من المضاربات، ومنع الاحتكار.
  • إطلاق مشاريع شراكة بين القطاعين العام والخاص لتحسين البنية التحتية في الأحياء القابلة للنمو.
  • تقديم حوافز استثمارية، مثل تخفيض الرسوم أو الإعفاء الضريبي في السنوات الأولى.
  • توفير تسهيلات تمويل موجهة للمشاريع الإنتاجية، ما يفتح الباب أمام استثمارات صغيرة ومتوسطة.
  • إعادة بناء الثقة، عبر قوانين واضحة وشفافة تحمي حقوق المستثمر.

مقامرة استثمارية

رئيس لجنة العرقوب الصناعية في مدينة حلب، تيسير دركلت، ذكر في حديث إلى عنب بلدي، أن جزءًا كبيرًا من البنية التحتية في المدينة لا يزال مدمّرًا، مشيرًا إلى معاناة الصناعيين والمستثمرين الحاليين من قِصر ساعات التغذية الكهربائية وارتفاع أسعارها، دون وجود تفسير واضح لذلك.

وقال دركلت، إنهم لا يعرفون حتى الآن سبب هذا الارتفاع، ولم تُدرس تسعيرة الكهرباء بشكل منطقي، مقارنة بدول الجوار غير النفطية، مضيفًا، “نحن ندفع أكثر من الجميع”.

وفي حين يبلغ سعر الكيلوواط في مصر نحو أربعة سنتات، وفي الأردن سبعة، وفي تركيا تسعة سنتات، فالصناعيون في حلب يتحمّلون تكلفة تصل إلى 20 سنتًا أمريكيًا للكيلوواط الواحد، وفق دركلت.

ثقة مفقودة

أشار رئيس لجنة العرقوب الصناعية إلى وجود ثغرات في القوانين الناظمة، مثل تأخر صدور قانون الضريبة المالية، وعدم تعديل قانون الاستثمار رغم الوعود المتكررة، واعتبر أن ارتفاع أسعار العقارات يعوق التوسع الصناعي، نتيجة غياب المخطط التنظيمي الجديد وعدم طرح مناطق صناعية إضافية.

وأضاف دركلت أن ما يدفعه الصناعي المستثمر في منطقة صناعية لقاء الكهرباء، يمكن أن يُنشئ معملًا كاملًا في ظروف سابقة، وهذا يوضح أن البيئة الحالية غير مثالية للاستثمار، وأن هناك حاجة ملحّة لتعديل القوانين، والتأخر في ذلك يخلق حالة من الإرباك ويزيد من المخاطر.

وأوضح أن ملف العقارات يرتبط ارتباطًا وثيقًا بغياب المناطق الصناعية الجديدة، لافتًا إلى أنه جرى اجتماع قبل نحو شهر برعاية محافظ حلب، عزام الغريب، وبحضور مدير ونائب مدير المناطق الصناعية، إلى جانب ممثلين عن غرفة صناعة حلب، حيث تم اقتراح إنشاء مناطق صناعية جديدة.

وتكمن المشكلة، بحسب دركلت، في عدم جاهزية البنية التحتية اللازمة، وعدم القدرة على تجهيزها بسرعة.

وبيّن أن المناطق الصناعية الواقعة داخل مدينة حلب تتلقى حاليًا ما بين ثماني إلى عشر ساعات تغذية كهربائية يوميًا، “وهذا لا يكفي لتشغيل خطوط الإنتاج بكفاءة”.

وأوضح أنه هنالك مشكلة مزدوجة، تتمثل بتغذية كهربائية ضعيفة وأسعار مرتفعة، وهذا لا يشجع على الاستثمار، بل يدفع من يضخ أمواله اليوم إلى “المقامرة بها”، كما أن هناك بطئًا في مراجعة القوانين القديمة، وهذا بدوره يزيد من مخاوف الصناعيين والمستثمرين.

قوانين غائبة

يشتكي كثير من السوريين المقيمين في الخارج من أن البيئة القانونية في سوريا ما بعد النظام السوري السابق لا تزال ضبابية، فحتى بعد انتهاء الحكم الأمني للرئيس المخلوع، بشار الأسد، لم تُطرح قوانين واضحة تُشجع على الاستثمار وتضمن الحقوق.

ويحكم المشهد النفسي للمستثمرين تناقض لافت، فمن جهة، الخوف من ضخ الأموال في بيئة هشة وغير مستقرة، ومن جهة أخرى، الخوف من ضياع الفرصة، في ظل ما يرونه من ضيق اقتصادي في بلدان اللجوء، خاصة تركيا ولبنان.

معاون محافظ حلب لشؤون الاستثمار، حازم لطفي، أكد، في حديث إلى عنب بلدي، أن مسودة قانون الاستثمار الجديد تتضمن تسهيلات “مميزة” لمصلحة المستثمرين، مشيرًا إلى أن تفاصيل القانون لا تزال قيد النقاش، ولا يمكن الإفصاح عنها قبل صدوره رسميًا.

وأوضح لطفي أن محافظة حلب، بالتعاون مع هيئة الاستثمار والمؤسسات المختصة، تعمل على تهيئة بيئة استثمارية ملائمة، من خلال مراجعة القوانين، وتنسيق الجهود بين الجهات المعنية، وتحضير مجموعة من المشاريع الاستثمارية، بالإضافة إلى إعداد دفاتر الشروط، وحصر الأملاك العامة، وبناء خارطة استثمارية تحدد أولويات الاستثمار في عشرة قطاعات رئيسة.

ويأتي ذلك في وقت أقرت فيه وزارة الاقتصاد والصناعة، في 18 من حزيران الحالي، نظام الاستثمار في المدن الصناعية في سوريا، بهدف تشجيع الاستثمارات الصناعية الوطنية والأجنبية، والمساهمة في نقل وتوطين التكنولوجيا والمعرفة الصناعية.

ورغم كل التحديات، لا تزال الفرصة قائمة، غير أنها بحاجة إلى شجاعة ورؤية، وتدخل حقيقي من الجهات المعنية، لإنهاء حالة الجمود، وإعادة حلب إلى خريطة الاستثمار.



مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة