منحبك.. التكرار النفسي للولاء في الصوت السوري

tag icon ع ع ع

أحمد عسيلي

في مساء 30 من حزيران الماضي، وخلال انطلاق فعاليات “لعيونك يا حلب”، قام المنشد أحمد حبوش بأداء أنشودة دينية استبدل في ختامها كلمات الذكر بعبارة: “يا أحمد الشرع منحبك”، مكررًا نغمة الهتاف التي رافقت حقبة بشار الأسد لعقود.

لم تمرّ الحادثة بصمت، فقد تفاعل الحاضرون بتردد، بينما اشتعلت وسائل التواصل بردود فعل غاضبة، وصلت إلى حد رفع دعوى قضائية ضد المنشد.

أهمية الحادثة لا تأتي من تفاهة كلماتها، بل من ثقلها النفسي. فقد سبق لحبوش أن أنشد لبشار الأسد بعد سقوط حلب عام 2016، ما جعل من المشهد الحلبي الأخير استعادة لصوت لم يمت فعليًا، بل عاد ليتموضع باسم جديد، في مشهد سريالي يستدعي سؤالًا أعمق:

هل خرج الصوت السوري فعلًا من العباءة الأسدية، أم أنه ما زال يكرّر ذاته بتغير الاسم فقط؟

وهل هذا الشكل من الولاء الفني- الديني فعل واعٍ، أم استجابة نفسية خفية لشعور جمعي لم يعالج بعد؟

في الواقع، إدخال اسم الحاكم في الأناشيد الدينية أو الأغاني الوطنية لم يكن استثناء، بل نمطًا متكررًا في تاريخنا السياسي والفني، فقد اشتهر المنشد توفيق المنجد خلال التسعينيات بأناشيده التي تحولت فجأة إلى مديح لحافظ الأسد، مستخدمًا صيغ التوسل والدعاء لتمجيده، لاحقًا، سارت على نهجه فرق مثل “مداح الحبيب”، التي مزجت اسم بشار بالمدائح النبوية، في خلط عجيب بين المقدّس والسياسي.

وفي الجانب “الدنيوي”، لم تكن الحالة مختلفة، غنى جورج وسوف للأسد الأب، وغنى أيمن زبيب لبشار. بل حتى أم كلثوم، الصوت العربي الأعظم، غنت أولًا للملك فاروق ثم لعبد الناصر.

في كل تلك الحالات، بدا أن الصوت لا ينتمي للمغني، بل للسلطة السائدة. يتلوّن معها، ويعيد إنتاج المديح ذاته، بصرف النظر عن هوية الممدوح.

لفهم هذه الظاهرة، لا بد من التوقّف عند مفهوم التكرار (la répétition) في الطب النفسي، ودوره في تخفيف القلق، سواء على المستوى الفردي أو الجمعي.

هذا الميل للتكرار شغل المحللين النفسيين منذ فرويد، الذي لاحظه لدى حفيده الصغير وهو يكرّر لعبة “فورت–دا”، حيث كان يرمي خيطًا ويسترجعه، ليُخفف قلق غياب الأم.

هذا التكرار لا يقتصر على الطفولة، بل يظهر بشكل واضح وحاد في حالات القلق الشديد، كما في الوسواس القهري (TOC)، حيث يعيد الفرد غسل يديه أو التأكد من إغلاق الباب عشرات المرات، لا لأن الحواس تخونه، بل لأن القلق لا يهدأ إلا بفعل التكرار نفسه.

ولأن النفس البشرية تميل إلى تكرار ما تعرفه حتى دون وعي، فإن المجتمعات تكرّر بدورها تقاليد مرهقة وصعبة، كغلاء المهور وحفلات الزواج الضخمة في حالة بعض مجتمعاتنا، رغم ما تسببه من إنهاك اقتصادي واجتماعي، لكن تلك الطقوس تمنح شعورًا بالتماسك، وتخفف التوتر الجمعي من خلال انتظامها الظاهري.

وهكذا، يصبح تمجيد الحاكم، أو إدخال اسمه في الإنشاد، طقسًا نفسيًا مريحًا، لا لأنه عقلاني، بل لأنه يُعيد ترتيب عالم النفس القَلِق، حتى لو كان الثمن هو المنطق والكرامة.

ما يعزز هذا التحليل هو ما رأيناه حتى في الشتات السوري.

فكثيرون ممن لجؤوا إلى أوروبا، وتحديدًا إلى ألمانيا، وجدوا أنفسهم في مجتمعات ديمقراطية لا تشبه أنظمتهم السابقة. ومع ذلك، لجأ بعضهم إلى إعادة إنتاج العلاقة ذاتها مع السلطة.

أُطلقت على المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل ألقاب مثل “ماما ميركل”. حتى وإن جاء بعضها بصيغة المزاح، إلا أنه يحمل استعادة لشكل قديم من العلاقة بالحاكم، يشبه نداء “الأب القائد”.

ليست العلاقة هنا سياسية بقدر ما هي إعادة تفعيل لبنية الطفولة، حيث الحاكم هو الأب، والولاء له يشعر بالأمان، كما كان الأمر في زمن الأسد.

وهكذا، يتكرر الولاء حتى في المنفى. لا لأن الشخص لا يؤمن بالنظام الديمقراطي، بل لأنه لا يعرف كيف يتعامل مع السلطة إلا بهذه الطريقة.

الخروج من هذه البنية لا يتم بمجرد إسقاط النظام، بل يتطلب كسرًا واعيًا لعادة التكرار القديمة، وخلق عادات تكرار جديدة. وهو أمر ليس بالسهل، قد يساعدنا على فهم صعوبة هذا الانتقال مثال بسيط: كيف أصبح من الغريب لدى كثيرين تناول وجبة “همبرغر” دون “بطاطا ومشروب غازي”. لا منطق غذائي في هذا التلازم، لكن العادة جعلته ضروريًا، غيابه يثير شعورًا باللا ارتياح.

فكيف سيكون الحال حين نطلب من مجتمع بأكمله أن يفصل بين المواطن والحاكم؟

أن يربط السوري نفسه بالدولة كمؤسسة، لا بالشخص كرمز؟

ما نحتاج إليه، ببساطة، هو تفكيك بنية عمرها قرون، أشار إليها حتى ابن خلدون حين تحدث عن العصبية كأساس للحكم، وهي بنية لا يواجهها الفكر وحده، بل النفس أيضًا.

نحن بحاجة إلى بناء تقاليد جديدة، تكون قابلة للتكرار، لكن لا تقوم على الطاعة، بل على الحقوق والقانون والانتماء المؤسساتي.

وهو جهد طويل وشاق، لكنه الطريق الوحيد نحو صوت لا يردّد ما قيل من قبل، بل يخلق ما لم يُسمع بعد.




×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة