أكثر من حجارة.. أقل من آلهة
غزوان قرنفل
ليست شيئًا مستجدًا تلك العلاقة العدائية بين أبناء السلفية الجهادية والتماثيل، أو المنحوتات عمومًا، التي يرون فيها “أصنامًا تُعبد من دون الله”، وأن واجبهم الديني يقتضي تطهير الأرض من تلك الأوثان كجزء من مهمتهم الإلهية في إعادة تأهيل وتربية المجتمعات، التي “يفيء الله عليهم بها” وتقع تحت سلطانهم، وتقويم اعوجاجها المفاهيمي والسلوكي بما ينسجم مع أوامر الله ونواهيه، كما يفهمونها هم أو كما تم حشوها في عقولهم، التي لا يزال يعبث فيها “ابن تيمية” ومن يشبهونه من الأئمة منذ قرون غابرة!
على الأقل يمكننا هنا استعراض ثلاث حالات انتصرت فيها جحافلهم على تلك الأوثان، التي رافقت التهليلات والتكبيرات عمليات هدمها، تأسيًا ربما بإبراهيم الخليل الذي هدم آلهة “النمرود” إلا كبيرهم، الذي علق فأسه عليه ليكون مدخلًا يحفّز فيه عقل عبّاد تلك الحجارة للسؤال عن سبب فشل هذا الإله العاجز عن حماية بقية الآلهة ممن تطاول عليها وقام بتحطيمها، ما يجعل القوم يثوبون إلى رشدهم ويعبدون الله وحده، إله إبراهيم ومن آمن معه.
في شباط 2013، وبعد سيطرة “جبهة النصرة”، المعين الرئيس لجبهة “تحرير الشام” التي يفترض أنها منحلّة الآن، على مدينة معرة النعمان، وهي إحدى أكبر مناطق محافظة إدلب، كان أول إنجازات “تحريرها” بتر رأس تمثال الشاعر الفيلسوف “أبو العلاء المعرّي”، حتى لا يبقى ذلك الانتصار ناقصًا، فغاية التحرير هو ألا يعبد إلا الله في الأرض!
في نهاية آذار 2015، وعقب “تحرير” مدينة إدلب، لم ينتظر عناصر “جبهة النصرة” طويلًا، عندما أحضروا جرّافة ليهدموا تمثال إبراهيم هنانو، قائد ثورة الشمال ضد الاحتلال الفرنسي في عشرينيات القرن الماضي، وداسوا رأس التمثال بأقدامهم وهم يتباهون ويعبرون عن غبطتهم أمام عدسات الكاميرا التي وثقت هذا النصر العظيم! وأيضًا لأن غاية التحرير هي إعلاء كلمة الله ووحدانيته، وحتى لا يعبد في تلك الأرض إلا الله، لكن الأمر لم ينتهِ هنا بالنسبة لمجموعة من المقاتلين “الأوزبك” المرتبطين بـ”هيئة تحرير الشام”، إذ اقتحمت مجموعة منهم في إحدى ليالي حزيران من عام 2021 متحف إدلب، وحطمت سبعة تماثيل داخل لوحة جدارية في المتحف، الذي قالت حينها “هيئة تحرير الشام” إنها نقلت معظم القطع الأثرية الثمينة لمكان آمن في محاولة لامتصاص غضب الرأي العام.
صباح الجمعة، 3 من تموز الحالي، استفاق الحلبيون والسوريون عمومًا على فيديو يصور ما قيل إنها عملية نقل لنصب الشهداء من ساحة سعد الله الجابري إلى مكان آخر، باعتباره يحجب الرؤية عن شاشة عملاقة قام بتركيبها أحد المتمولين مؤخرًا خلال ما سمي بعملية إعادة تأهيل تلك الساحة، ولا أدري سبب عدم تركيب تلك الشاشة في الطرف المقابل تمامًا للنصب وليس خلفه مثلًا. لكن كل من شاهد تلك العملية يدرك بلا عناء أنها عملية تحطيم وهدم متعمدة لكنها مستترة تحت اسم النقل، فأبسط إنسان يدرك أنه لا يمكن نقل منحوتة تزن أطنانًا بعملية جر بكبل معدني متصل بشاحنة، دون استخدام رافعة لمحاولة رفع المنحوتة واتخاذ ما يلزم من إجراءات الحيطة لحمايتها خلال عملية النقل المزعومة.
والأهم من كل ذلك هو ما رافق أحد الفيديوهات من تعليق صوتي للمصور يقول فيه، إن “الإخوة سيزيلون تلك الأصنام التي نحتها المشركون منذ عقود حتى لا تفتن الناس وحتى لا يعبد إلا الله في الأرض”!
نفس العبارات دائمًا، رغم أننا لم نرَ قط سوريًا يسجد لصنم، لا في ساحة سعد الله الجابري، ولا في ساحة إبراهيم هنانو، ولا في أي ساحة أو ميدان على أرض سوريا كلها، لكنه وهم الاعتقاد لدى هذه الفئة المتطرفة أنها بصفتها وكيلة عن الله وممثلة له ولإرادته على الأرض تملك الحق في تقويم “اعوجاجنا” وانحرافنا في اعتقاداتنا الدينية التي لا ننهلها من نفس المعين.
ربما كُتب وقيل الكثير عن هذه الواقعة، وتم تتفيهها من قبل كثيرين في سياق تبريراتهم ودفاعهم الممجوج عن سلوك السلطة الجديدة وقراراتها، لكن المسألة لا تتمثل على نحو مجرد بمسألة تحطم أو هدم تمثال أو منحوته، بل بدلالة ومرامي الفعل ذاته الذي يسعى لتكريس مفاهيم دينية طارئة ومستجدة على المجتمع السوري، المحافظ أصلًا والمتعايش مع فكرة تعددية الأديان والمذاهب، ولا يرى حرجًا من قرع أجراس الكنائس أو وجود الصلبان على مبانيها، ولا يتبرم من طقوس تعبدية يمارسها أصحاب أديان أو مذاهب غير ذات صلة بدين الأغلبية أو مذهبهم.
المسألة تتصل فيما يراد تكريسه عنوة في ذهن المجتمع ووجدانه الجمعي، وفي المؤسسات الحكومية التي يفترض أنها كيانات خدمية لعموم الناس لا لفئة منهم، وتدار وفق قوانين لا وفق رؤى وأفكار فقهية أو دينية لا صلة لها لا بجوهر الدين نفسه ولا بحقائق العصر الذي نعيش، وأن الإصرار على ذلك سيقودنا جميعًا إلى ما لا يحمد عقباه، وهو لن يفضي فقط إلى فشل ذريع في إدارة الدولة وشؤون الناس، بل إلى تفكك بنى المجتمع السوري نفسه وانهيار بنى الدولة ذاتها.
السوريون لم يقل واحد منهم قط “اعلُ هبل”، كما جاء في التعليق الصوتي لأحدهم في فيديو هدم نصب الشهداء، لكن بعضهم، وغالبًا ذاك المعلق نفسه أحدهم، كان يعبد الأسد من دون الله ويسبح بحمده ويهلل ويدبك له، وربما في نفس الساحة التي شهدت واقعة انتصارهم على “نصب الشهداء” الذي كان أكثر من مجرد حجارة، لكنه بالقطع لم يكن ليكون آلهة تُعبد من دون الله.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :