خلطبيطة
غزوان قرنفل
ربما لا يوجد ما يعبر عن حالنا الآن (سوريا والسوريون)، وتبديات عملية إعادة التموضع الإقليمي والدولي للدولة السورية الجديدة، أكثر مما يعبر عنه الفيلم المصري “خلطبيطة”، الذي كتب نصه وأخرجه مدحت السباعي، وأدى بطولته الرئيسة الفنان محمود عبد العزيز، رحمه الله.
لست هنا في وارد الغوص في التفاصيل الدرامية والسينمائية للفيلم، إذ يمكن للمتابع والقارئ أن يستمتع بمشاهدته ليدرك مرامي ما أعنيه، لكني مهتم بالتأكيد بالعبور عبر تلك السطور على عديد من المحطات المتعلقة بوضع بلدنا والأخطار التي تحيق فيه، والعبث الذي لا تزال السلطة الراهنة مصرة على ممارسته رغم ما قد يقودنا إليه ذلك من مآلات أكثر كارثية مما كنا فيه، لا قدّر الله.
يقول بعضهم في معرض محاولاته الدؤوبة للدفاع عن أداء السلطة، إنه يجب أن نمنح القيادة الجديدة مزيدًا من الوقت ولا ننظر فقط إلى النصف الفارغ من الكأس، وإن النقد والانتقاد لا يكون بمسرب واحد، بل يجب أن يكون “بنّاء” يظهر الجيد والسيئ معًا.
المشكلة عندما تكون راكبًا في حافلة وتدرك أن السائق بدأ يتصرف برعونة، وأنه انحرف عن المسار المحدد لوجهة الوصول لا يمكنك أن تقول: لنمنح هذا السائق الفرصة الكافية، لأن صمتك وترك حرية التصرف والقيادة للسائق سيودي بالحافلة وركابها معًا، أو على الأقل لن تصل الحافلة ولا ركابها إلى وجهتهم أبدًا، فالمؤشرات كلها تقول لك إن الحافلة تسير في الطريق الخاطئ، وخريطة الطريق التي حددتها مسبقًا لا تزال تعيد التنبيه تلو الآخر أنك على الطريق الخاطئ، عندها يكون القول: اتركوا السائق يقوم بمهمته وامنحوه الفرصة، مجرد عبث لا أكثر.
خلال شهر واحد نشرت وكالة “رويترز” تحقيقين صحفيين كشفت فيهما ووضحت حقائق لطالما حاولت السلطة مواراتها، الأول يتعلق بالجرائم التي ارتكبت بحق مدنيين، فيما عُرف لاحقا بـ”أحداث الساحل”، والثاني يتعلق بعمليات اختطاف نساء وفتيات من الطائفة العلوية واستعبادهن جنسيًا والتفاوض على حريتهن مقابل فدية مالية. بينما لا يزال الصمت يلف ما خلصت إليه لجنة التحقيق بأحداث الساحل التي شكلتها السلطة نفسها ولم تعلن عن نتائجها حتى الآن رغم انتهاء المهلة القانونية المحددة لعملها، وهو ما دفع منظمة العفو الدولية لإصدار نداء تطالب فيه السلطة بإعلان نتائج تلك التحقيقات، واتخاذ إجراءات لمحاسبة الفاعلين وتعويض المتضررين، ولكن لا تزال أذنا السلطة واحدة من طين والأخرى من عجين.
قرارات تدريب وتعيين كوادر السلك الدبلوماسي تمت في غفلة عن الراغبين بالتقدم لمثل تلك الوظيفة، ودون اتباع أي إجراءات لمسابقة رسمية يفترض أن يعلن عنها ليتاح للناس فرصة متكافئة مع غيرهم للتقدم لتلك الوظيفة، علمًا أن جلّ من فوجئ الناس بهم كخريجين من المعهد الدبلوماسي ليسوا ممن يؤهلهم نوع تحصيلهم العلمي لشغل تلك الوظيفة، وهو ما يؤشر لزبائنية لم تكن متوقعة أو منتظرة من حكومة يفترض أنها جاءت عقب ثورة قامت لمحاربة الزبائنية.
عقود وتلزيمات بالمليارات للعديد من القطاعات الاقتصادية تتم دون الرجوع لأي إطار قانوني، ومنها القانون رقم “51” لعام 2004، وهو الناظم الأساسي الذي يحدد للحكومة كيفية قيام الجهات العامة بإبرام العقود، سواء أكانت عبر طرح مزايدات دولية أو مناقصات أو عروض أسعار أو غيرها من الطرق، بل ويحدد الإجراءات الواجبة للإعلان والشفافية وتشكيل لجان الشراء وفض العروض والشروط الفنية والمالية الواجب توفرها. كل ذلك يرمى في سلة المهملات بينما تلجأ السلطة لإبرام عقود مباشرة مع شركات أو مؤسسات أو أشخاص بطريقة التعاقد المباشر وبمبالغ مهولة ودون أي رقيب أو حسيب.
مئات من المتهمين بارتكاب جرائم حرب ممن شاركوا في المقتلة السورية لحساب سلطة الأسد تم الإعلان عن اعتقالهم منذ يوم التحرير إلى الآن، هل سمعتم عن واحد منهم فقط أحيل إلى القضاء وأعلنت لائحة اتهامه وبدأت إجراءات محاكمته؟ ماذا تفعل المحاكم والنيابات وقضاة التحقيق إذًا؟ وهل يجب أن ننتظر قيام الساعة لتتم تلك المساءلة المفترضة! ثم لماذا يتم إشغال الناس بمسائل قانونية قبل أوانها، كموضوع التمديد الحكمي لعقود الإيجار، وهي مسألة غاية في التعقيد ويجب تفكيكها بأناة وتوازن بين أصحاب الحقوق والمتضررين، كما أنها تستلزم تشريعًا جديدًا أو تعديلًا جوهرًيا على التشريع الموجود، وهو ما يستلزم وجود مجلس تشريعي، تعمل السلطة ببطء ودون تعجل على اختيار أعضائه مباشرة، وهو في جميع الأحوال لا يملك من إرادته وقراره شيئًا.
ومن عجائب “خلطبيطة” حالنا، أن يصدر الرئيس مراسيم تشريعية وهو لا يملك الحق الدستوري بإصدارها، وأن تقرر جهة ما مؤجرة لعقار باتخاذ قرار بإرادتها المنفردة بإنهاء عقد الإيجار وإنذار المؤجر بوجوب الإخلاء خلال أسبوع دون أن يصدر قرار قضائي بذلك! كالحالة الأحدث والأبرز على الساحة الآن المتعلقة بمبنى سينما “الكندي” بدمشق، فهل صار المؤجر فجأة يملك الحق بتقرير إنهاء العقد متى ما أراد وبإرادته وقراره لوحده دون اللجوء للقضاء؟
ألم يئن الأوان لتلك السلطة أن تدرك أن ما كانت تفعله في إدلب لا يمكن تكراره وتعميمه على عموم سوريا، على الأقل لجهة أنها عندما كانت في إدلب كانت مجرد سلطة ميليشيا فرضها الواقع، أما اليوم فيفترض أنها سلطة دولة وهناك قواعد وإجراءات وقوانين يجب احترامها واتباعها، فالدول لا تدار بالأمزجة الشخصية ولا بالقرارات الارتجالية ولا التعاقدات خارج نطاق القوانين، ولا تدار بالاستئثار والتفرد وتهميش المجتمع وقواه، ولا بالسيطرة على الوزارات والإدارات برجالات هيئة سياسية خفية، ولا بوضع اليد على النقابات وفرض مجالسها عليها، ولا بعقد الصفقات في ظلمة الغرف المغلقة.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :