تعا تفرج

بعد عن التفلسف عَ الأصل دور

tag icon ع ع ع

خطيب بدلة

يحتاج استيعاب ما نتداوله من أقوال، وأمثال شعبية، إلى مقدرة عقلية خارقة. فحينما تسمع من يقول “المكتوب على الجبين لازم تشوفه العين”، ستقف عاجزًا أمام فهم عملية الكتابة على الجبين، يا ترى، كيف تكون؟ بأي لغة؟ وبأي نوع من الأقلام؟ وإذا فرضنا أن هذه الكتابة ممكنة، بوصفها حالة افتراضية، أو رمزية، سيأتي السؤال الأصعب، وهو: كيف ستتمكن العين من رؤيته، وهو بعيد عن مرماها؟ ألا يقولون، في الأمثال، أيضًا، العين ما بتعلا على الحاجب؟

ثمة مصطلح، نُمضي عمرنا ونحن نستخدمه، ونترنم به، ونؤلف لأجله الأغاني، ونضعه في سياق الحكم والأمثال والمواعظ، ومع ذلك لا نفهمه، إنه مصطلح “الأصل”.. والغريب في الأمر، أننا لا نوجه لأنفسنا ذلك السؤال البسيط، البديهي: شو يعني “أصل”؟

يحتل هذا المصطلح مساحة واسعة من لغة أهلنا، وفلسفتهم البسيطة، فأولى الصفات الحميدة التي تطلق على الصبية النازلة إلى سوق الزواج، أنها “أصيلة”، وبعض الناس يزيدون من الجرعة، فيقولون: “أصيلة الجدين”، ويستخدمون، أحيانًا، صفة غريبة للغاية، فيقولون: “أصيلة ومسلسلة”، أي أن سلسلة الجدود الأصيلين الذين تنحدر من نسلهم، خالية من أي انقطاع، فلا يوجد، ضمن السلسلة، واحد “مو أصيل”! وهذه الأوصاف تأتي على شكل استجابة لمتطلبات سوق الزواج، حيث المثل الذي تعتمد عليه الخاطبات: “خود الأصيلة ونام على الحصيرة”.. وهناك حكمة، لا نعرف مَن هو مكتشفها، تقول “استأصل لابنك، واستكوس لبنتك”.. وتعني خذ لابنك فتاة أصيلة، وأما ابنتك فابحث لها عن شاب “كويس” يملأ عينها، كي لا تنظر يمينًا وشمالًا!

هناك مطرب مصري، صعيدي، اسمه محمد طه، يغني سلسلة من المواويل المتلاحقة، تنتهي، كلها، بعبارة: ع الأصل دور، وذات يوم، نسج عليها الكوميديان سمير غانم فصلًا مضحكًا، يعتمد على البديهيات التي تقال كما لو أنها اكتشافات مذهلة، مثل: وما دام العريس ح يتجوز، تبقى العروسة ح تتجوز! وينهي مواله بعبارة: ع الأصل دور.. وأنا، محسوبكم، ألفت موالًا مشابهًا، قلت فيه:

يا اللي هويت الاعتدال سيبك من التطرفْ

وان كنت عاوز تقول بعد عن التفلسُفْ

دا الاعتدال بينفع ولا بينفع تطرف / ع الأصل دور..

خلال فترة من حياتنا، كنا نقرأ دراسات، ومقالات صحفية، ونصغي إلى محاضرات، تحكي عن ثنائية عجيبة، هي: الأصالة والمعاصرة. وإذا أنت فعلت مثلي، أي وضعت ثقلك العقلي، والمنطقي، واستحضرت مخزونك الثقافي، وتفرغت شهورًا لفهم هذين المصطلحين، والفرق بينهما، لن تجد سوى أمثلة مبسطة، تصلح لتعليم الأميين، كقولهم إنه الفنان التشكيلي، إذا كان مع الأصالة، يرسم لنا معارك عنترة وسيف بن ذي يزن، وقطاف الزيتون، وعودة العمال إلى بيوتهم متعبين.. وأما الفنان المعاصر فيرسم لك موبايل آيفون، آخر صرعة، مثلًا، أو طيارة قاذفة (B2 spirit).

إذا كنت مغامرًا، شجاعًا، ستقول إننا قوم لا مكان لنا على مائدة الحضارة الإنسانية، وبدلًا من أن نبدع أفكارًا وفنونًا قريبة من فهم الإنسان الذي نخاطبه، ترانا نعقد المفاهيم، أو نستورد مفاهيم من الغرب، ونترجمها، ونعتبرها خاصة بنا.



مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة