حرب السويداء.. هذه ليست لعبة الحبار
أحمد عسيلي
ما إن اندلعت الاشتباكات في مدينة السويداء، جنوبي وطننا الحبيب، حتى امتلأت شاشاتنا بالمشاهد المروعة، دوي رصاص، أجساد تتناثر، صراخ نساء، ونداءات استغاثة، مشاهد باتت للأسف مألوفة لنا جميعًا حد التبلّد، فبالنسبة للكثيرين منا، سواء كنا في باريس، برلين، طرطوس، أو حتى درعا، بدا الأمر كما لو أننا نشاهد موسمًا جديدًا من مسلسل قديم نعرفه ونحفظ تفاصيله عن ظهر قلب. لكن ما حدث لم يكن مشهدًا، بل حياة تنهار، ومدينة تُسحب نحو المجهول، وأناس يدفعون ثمن صراعات تتجاوز وجودهم وحدود مدينتهم.
كالعادة، رافقت الحدث تعليقات متفجرة على وسائل التواصل الاجتماعي: تحريض، تخوين، تبرير متبادل بين سوريين في الداخل والخارج. من يشمت، من يدعو لثأر، من يتخيل نفسه جنديًا أو قائدًا ميدانيًا، ومن ينظّر عن الكرامة والحسم. بدا وكأن الجميع يمسك بجهاز تحكم، يختار لقطته المفضلة من الدم، ويمر سريعًا على تلك التي لا تعجبه أو لا تتماشى مع قناعاته، لكن الحقيقة أن معظمنا لم ولن يفهم تمامًا ما يعنيه العيش وسط هذا العنف.
أتذكر حين شاركت في بدايات الثورة ببعض المظاهرات المعارضة لنظام الأسد في دوما وبرزة، كنت هناك لا أشارك إلا في مظاهرات مخطط لها ومحميّة جيدًا، كنت أعرف متى أهرب، وأين أختبئ، وكيف أبرر وجودي أو بمن أتصل إن تم توقيفي، ثم جاءت التجربة التي غيرت فهمي لفعل التظاهر جذريًا، كنت داخل “سرفيس” يعبر منطقة كفربطنا أو مسرابا (صدقًا لم أعد أذكر) حين وقع حادث أمني أو مظاهرة ضخمة، لم يكن العبور عاديًا، بل مليئًا بالخطر، تصاعدت أصوات إطلاق النار، وصرخات الناس، وتوقف “السرفيس” فجأة، بدأ الركاب بالصراخ والهروب. هناك فقط شعرت بجسدي يتلمس الخطر، كنت وجهًا لوجه أمام فنائي الذاتي، كانت أول تجربة حية لي مع الواقع الدموي لفعل سياسي كنت أظنه مجرد غناء وهتاف ورقص على بعض الأغاني الحماسية.
لم أكن وقتها منفصلًا عن الواقع بالطبع، بل كنت أتابعه لحظة بلحظة، كنت أتابع أخبار الشهداء، كنت أعيش في حرستا، واحدة من أهم المدن المنتفضة، مدينة قريبة جدًا من ساحات الموت، لكن أن تسمع عن العنف شيء، وأن تعيشه شيء آخر.
يتحدث الفيلسوف وأستاذنا في التحليل النفسي سلافوي جيجيك، عن الفرق بين العنف الواقعي والعنف الرمزي، وعن كيف تخلق الشاشات مسافة آمنة بيننا وبين الفظائع، فتسمح لنا بالتلذّذ (نعم بالتلذذ) بها دون أن نُصاب، هذا بالضبط ما نفعله حين نتابع أخبار سوريا المنهكة، وكما يقول المثل: “اللي بيعدّ العصي مو متل اللي بياكل الضرب”. عشت في حرستا، لكنني لم أذق حقًا ألم الحصار الذي كانت تشهده مدينة دوما وقتها أو حتى كفربطنا، مدينتان تبعدان دقائق فقط، لكن في جحيم مختلف، فكيف لسوري يعيش في أوروبا، مهما بلغ تعاطفه، أن يشعر حقًا بما يعيشه من هم في السويداء؟
هذا الانفصال بين ما يُشاهد وما يُعاش، هو ما يفسر (جزئيًا على الأقل) تصاعد التحريض من قبل كثير من السوريين، لقد تبلد الإحساس، العنف صار مؤنسنًا، مقطعًا، بلا سياق، يعاد تدويره كمحتوى ترفيهي، كما في أفلام الرعب التي تمنحنا نشوة مؤقتة لأننا نعيش الخطر دون أن نقع فيه، صارت الحرب في سوريا لكثيرين لعبة إثارة تُتابع من خلف الشاشة، نحن بأمان نتحدث عن مقاتلي رجال الكرامة وكأنهم مقاتلون فقط لا يهابون الموت، كأن موتهم شيء طبيعي طالما ربطوا أنفسهم بالكرامة، نتحدث عن ذاك البدوي كجزء بسيط من جحافل بلا لحظات خوف أو فزع أو قصة حب.
أتذكر هنا مريضة نفسية قالت لي مرة إنها حين تكتئب تسافر إلى مناطق فقيرة جدًا في إفريقيا لتشعر بالنعمة التي تعيشها، تصرفها هذا لم يكن تضامنًا بالتأكيد، بل راحة نفسية من خلال مشاهدة ألم الآخرين، الشيء ذاته يحدث حين يتحول وجع السوريين إلى مادة للتأمل، أو للمتعة المريضة.
إن كنا صادقين مع أنفسنا، نعلم أن الوقت قد حان للخروج من هذه الدوامة، لعبة العسكر والسلاح والثأر لن تصنع مستقبلًا، حرب السويداء يجب ألا تتحول إلى فصل جديد من مسلسل لا ينتهي، إن لم نختر بوضوح طريق السياسة، الحوار، ونبذ العنف (حتى من خلف الشاشات) فإننا نعيد إنتاج نفس الجريمة.
أتوجه هنا خاصة لنا، نحن البعيدين عن ساحات القتال، صحيح أننا لا نحمل السلاح ولسنا منخرطين في الحرب، لكن هذا لا يعفينا من المسؤولية الأخلاقية، يمكننا على الأقل أن نتفق نحن من نعيش خارج نار السلاح، ألا نكون وقودًا لصراعات لا نعيشها. أن نرفض أن تتحول بلادنا إلى “لعبة الحبار”، اللعبة التي يستمتع بها الجميع، ويموت فيها اللاعبون.
حتى إن بدا أحد هؤلاء اللاعبين شريرًا في نظرنا، فالموت لا يمكن أن يكون دومًا الجواب، لأن الساحة، في النهاية، هي أرضنا، والخراب يصيب بيوتنا، لا شاشاتنا، وفي الحروب، لا ينجو أحد: لا المقاتل، ولا المشاهد.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :