تعا تفرج
التضحية بالآخرين
خطيب بدلة
لا أفهم، (وقد لا أفهم طوال عمري)، كيف تستطيع امرأة، وهي تستقبل جثمان زوجها المقتول، تحريكَ حبالها الصوتية، لتهتف: فداك يا بشار!
قصة المرأة المفجوعة، التي هتفت “فداك يا بشار”، حقيقية، وقعت في أوائل سنة 2012، نقلتها إليّ سيدة من معارفنا، كانت حاضرة، يومئذ، ذلك المشهد الكئيب.. وأرجو من قارئ هذه الكلمات، ألا يستعجل الحكم علي، ويتهمني بتناول موضوعات عتيقة، فأنا، هنا، أناقش مسألة خطيرة للغاية، هي استغراق مجتمعنا في تبني مفاهيم، وعادات، وتقاليد، تتناقض مع الطبيعة البشرية، فبدلًا من إظهار كل التعاطف، والتقدير، لمشاعر الإنسان المفجوع، نجعله يهتف بـ”عكس ما يشعر”.
أنا، شخصيًا، عشت هذه الطقوس، المعاكسة للطبيعة البشرية، في الشهور الأولى من الثورة، فعندما كان يأتي خبر مقتل أحد الشبان، على يد قوات النظام، يسارع أهله إلى إقامة سرادق، ويكتبون عليه عبارة مغايرة للمألوف، وهي: “تهنئة” للعائلة الفلانية باستشهاد ولدها.
تبين لي، لاحقًا، أن هذه المفاهيم، “المقلوبة عن عمد”، كانت مشتركة بين الثائرين على النظام، ومؤيدي النظام أنفسهم. قبل أيام، أرسل إلي شاب من ريف مصياف، طرفة واقعية، عن عسكري، من تلك المنطقة، قتل في اشتباك مع الثوار، وجاء أمين شعبة الحزب، ليعزي الأهل، أو بالأصح، يهنئهم، ويبارك لهم بالتخلص من ابنهم! فقال للرجال المصطفين في مدخل السرادق: جايين نبارك لكم باستشهاده. فقال لهم واحد من أشقاء الشهيد، معروف بخفة دمه، ومقدرته على التهكم: الله يبارك فيك، يا رفيق، إن شاء الله نرد لك ياها، ومنفرح باستشهاد ابنك فلان! فانفجر الحاضرون بالضحك، ولم يدرِ الرفيق، المناضل، كيف يغادر المكان.
هذه الكتابة، يا سادتي، ليست مسيسة، لم آتِ على هذه الأمثلة لأغمز من قناة النظام، أو معارضيه.. أو لأقلل من شأن الذرائع التي ساقها المعارضون لتسويغ ثورتهم، أو كان النظام المستبد يسوقها لتسويغ قتل الثائرين عليه، فهذا الصراع صار وراءنا، وكل ما أريد قوله، إن الشبان الذي فقدوا حياتهم، في خضم هذا الصراع الدامي، يستحقون أن ننصفهم، ونحذر من استمرار التضحية بأمثالهم، في المستقبل.
لدي قناعة أن الإنسان، حينما يخرج من رحم أمه، يصبح من حقه أن يعيش بسلام، إلى آخر عمره، ومن واجب الذين خلفوه: حمايته، ورعايته، والمحافظة على حياته، فإذا كبر، وبلغ سن الرشد، يصبح من حقه أن يتبنى قضية، ويضحي (بنفسه) في سبيلها، ولكن المبدأ السائد في المجتمعات العربية، والإسلامية، مغاير لما ذكرت، وهو: التضحية بالآخرين!
لا بد، هنا، أن يظهر لك إنسان، ويقول لك: أنا لا أضحي بالآخرين، ولكنني سأضحي بأبنائي.. وسرعان ما تتحول القضية الإنسانية المتعلقة بحياة الأبناء، إلى حسابات رقمية، إذ يتابع الأب خطابه الحماسي، قائلًا: عندي عشر أولاد، بَلا تلاتة منهم!
غالبًا، هذه النقاشات تجر بعضها، وتأخذنا إلى سلسلة أخرى من الأسئلة: ليش خلفت عشر أولاد؟ شو بتطعميهم؟ كيف بتعلمهم؟ عندك وقت تسمع مشاكلهم؟ تحاورهم؟ أم أنك تخلفهم على مبدأ “سيروا على ما يسر الله”، وفي لحظة حماس آنية تضحي بثلثهم؟
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :