ثانية واحدة فقط

tag icon ع ع ع

غزوان قرنفل

ثانية واحدة فقط هي المسافة الزمنية بين رد الضحية على سؤال القاتل حول من يكون؟ أمسلم هو أم درزي، بعد أن لم يرق له الجواب الأول أنه سوري، وعندما أجابه بأنه درزي، أمطره ورفاقه القتلة بوابل من الرصاص.

ثانية واحدة فقط هي المساحة الزمنية للحياة اللازمة للرد على سؤال قاتل ليس للضحية فقط، بل لوطن كامل لم يعد من السهل إحياؤه.

ثانية واحدة فقط هي الزمن الذي قرر من يعتقد نفسه وكيلًا ونائبًا عن الله أن يمنحه لمقتول لكي يفصح عن هويته الدينية، لأنها بنظره وموازين أحكامه هي الفيصل بين الحق في الحياة أو موجبات الموت.

لم يرق له أن يكون الضحية سوريًا، أراد أن يخلع عنه هذا الانتماء، فأصر عليه أن يجيب عن سؤال الاستباحة أمسلم أنت أم درزي، فالدرزي اليوم مستباح، والعلوي قبله كان مستباحًا، وغدًا لا نعرف من ذاك الذي يتم إدراجه على قائمة الموت والاستباحة.

غدًا ستتصدّر وسائل الإعلام ووسائل التواصل تصريحات ترفض هذا السلوك الإجرامي وتدينه، وسيتنطح بعضهم بالقول إن ذلك السلوك المشين لا يمثل سلطة الدولة، كما لا يمثل بطبيعة الحال دين الإسلام! لكن الجريمة تمت ببساطة على يد قاتل يمثل “الدولة” ويستبيح الحيوات باسم الإسلام، فلا يكفي التنصل من الجريمة في هذا المقام بل ثمة الكثير مما يتعين على السلطة المتنصلة فعله، حده الأدنى نصب المشانق لكل من يستبيح دماء الناس بغير حق، ويقرر أن يجعل من نفسه ملاك الموت يقبض أرواح من يشاء بغير حساب.

لم يكن مفاجئًا، بالنسبة لي على الأقل، أن تعلن اللجنة المكلفة بالتحقيق في أحداث الساحل عن مضمون تقريرها في هذا الوقت بالذات رغم الانتهاء منه منذ وقت ليس بالقصير وفق معلوماتي، فالسلطة المأزومة كانت تحتاج إلى ذلك لتقول وتعزز القول بالفعل إنها لن تغض الطرف عن أي جرائم أو انتهاكات ارتكبت بحق الدروز! كما لم تفعل بحق العلويين، لكن التمحيص والغوص أكثر في مضمون تقرير اللجنة يقطع بما ليس فيه شك أنها لم تكن لتستطيع أن تخرج بنتائج أكثر مما أعلنت عنه لعوامل كثيرة لا تتعلق بالتأكيد بالنزاهة والخبرة القانونية، لكن بوجود سقف لا يجوز لها تجاوزه، هذا السقف يقول إن ما حصل من جرائم وانتهاكات حصل كجرائم انتقام وأفعال فردية لعناصر خالفت أوامر قيادتها العسكرية لا أكثر، وإنه لا أحد من قيادات الداخلية والدفاع مسؤول عن تلك الأفعال التي لم يثبت أنهم أعطوا أوامر بارتكابها بل على العكس يقول التقرير ما فحواه إن تلك الأفعال تمت بسبب مخالفة التوجيهات والأوامر!

لست هنا في وارد جمع ونشر أدلة نفي وإثبات بهدف إدانة السلطة بتلك الجرائم، لكن لملكة العقل قدرة على التحليل والتمييز للقول إن هذه الأفعال والجرائم ما كانت لتتم لولا وجود توجيهات أو غض طرف على الأقل عن تلك الارتكابات والانتهاكات، فالبنية الأمنية والعسكرية للسلطة محكمة الإغلاق ليس فيها هوامش للتفكير وحرية السلوك ما يعزز فرضية علم القادة وقبولهم بما يحصل، ولعل ما وقع خلال أحداث السويداء والتي تكررت فيها ذات السلوكيات والجرائم والمشاهد المروعة ما يؤكد أنها صارت نهجًا معتمدًا لفرض حالة ترويع وإخضاع على كل شخص أو جماعة أو فئة لا تقبل نهج وسياسات السلطة الحالية وتناهضها.

هل من فرصة اليوم للتمهل والتفكير في نتائج وانعكاسات تلك الأفعال على وحدة المجتمع السوري وما تبقى من روابطه الوطنية؟ وهل من فسحة للمراجعة والتأمل إلى أي هاوية ستقودنا إليها تلك السياسات والقرارات والأفعال؟

نحن لا نحتاج اليوم إلى لجنة تحقيق جديدة لتحقق وتتحقق من الجرائم المرتكبة في السويداء ثم تخرج علينا بعد بضعة أشهر بنفس الخلاصات والنتائج، بل ربما نحن بحاجة أكثر إلى لجنة تتحقق من إنسانيتنا ومدى توافقنا مع المواصفات الآدمية.

ليست على المحك اليوم وحدة الجغرافيا السورية فقط، بل أيضًا وحدة السوريين والرابطة الوطنية التي يفترض أن تجمعهم، فلا قيمة للجغرافيا الواحدة إن كان المجتمع متصدعًا ومدمرًا ومشرذمًا ويقتل بعضه بعضًا.

كلنا ستكون حياتنا ثانية واحدة لا أكثر إن لم نخرج من متاهات الهويات الدينية والمذهبية ونضع أرجلنا على عتبة الهوية الوطنية السورية، والحقوق المتساوية بين السوريين، فالأوطان لا تبنى بمنهج القهر والاستحواذ، بل بمنهج الشراكة والعدل.

ثانية واحدة لا أكثر هي ما نحتاج إليه للعبور من نفق التوحش إلى استعادة إنسانيتنا كبشر، فقط علينا أن ندرك ونؤمن أن الآخر بشر مثلنا، وأن له في الوطن تمامًا ما لنا، وله من الحقوق ما هو مماثل تمامًا لما لنا، وأن الله لم يعطِ تفويضًا ولا وكالة لأحد لينوب عنه في فرز خلقه بين الجنة والجحيم.

ثانية واحدة فقط سبقت اعتراف وإقرار آخر درزي ربما بسوريته، ثانية واحدة فقط هي الفارق بين أن تكون بشرًا سويًا أو أن تكون قاتلًا وجبارًا شقيًا.



مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة