السهل والجبل.. الجنوب يهزم محاولات التفريق

أهالي درعا يحتفلون في ساحة 18 آذار بسقوط النظام - 18 آذار 2025 (محمد الساري)

camera iconأهالي درعا يحتفلون في ساحة 18 آذار بسقوط النظام - 18 آذار 2025 (محمد الساري)

tag icon ع ع ع

عنب بلدي – سدرة الحريري

“لا يا جار الرضا اصحى تعاديني.. بيني وبينك يزرعوا شوك الضغينة.. والله دينك على راسي وعلى راسك ديني”.

تلخص هذه الكلمات التي تتردد في أغنية مشتركة لكل من سهير صالح ومروة الأطرش، طبيعة العلاقة بين درعا والسويداء، وبين مجتمع في المحافظتين لا تقسمه الطوائف أو الخطوط الإدارية.

منذ لحظة اندلاع شرارة الثورة السورية في درعا عام 2011، تشابكت أيادي أبناء المحافظتين، لا كشركاء في الأرض فقط، بل كشركاء في الحلم والوجع والمصير، حين حوصرت درعا، لم تكن السويداء مجرد متفرج، بل فتحت أبوابها لأهلها، وامتدت أيادي شبابها لتوصيل أرغفة خبز خُبزت بأيدي نساء السويداء كي لا يبيت طفل جائعًا أو تختنق صرخة في مدينة أُغلقت عليها الطرقات.

منذ الأيام الأولى للثورة السورية، كانت العلاقة بين درعا والسويداء تتجاوز الجغرافيا، لتصنع خريطة من التضامن الحقيقي.

وفي وقت كانت فيه درعا تحت الحصار، دخل العديد من أبناء السويداء إلى المدينة حاملين الخبز، وحليب الأطفال، والأدوية، متحدّين الحواجز والخطر.

“أذكر شابًا وفتاة من السويداء، كانا يخاطران من أجل إدخال المساعدات إلى درعا”، قال الناشط السياسي في الحركة الشبابية جبير السكري، مستعيدًا تلك اللحظات.

الروابط بين المحافظتين لم تبدأ مع الثورة، لكنها تعمّقت خلالها، فقد شهدت مظاهرات درعا مشاركة فاعلة من أبناء السويداء، من بينهم تيمور خير الدين، الذي قُتل مؤخرًا في أحداث السويداء، وكان يعمل مسعفًا في الهلال الأحمر. “كان لتيمور حضور دائم في مظاهرات درعا منذ البدايات”، أضاف جبير، مؤكدًا أن الذاكرة الثورية للجنوب كُتبت بأسماء مشتركة.

من جانبه، قال مجد أبازيد، أحد أبناء درعا، “كل سوريا جرحتنا، عدا السويداء”، وأضاف، “السويداء هي المحافظة الوحيدة التي احتفلت معنا في 18 من آذار، لأنها كانت تعرف تمامًا ماذا يعني لنا هذا اليوم. لم تحتفل مع باقي المحافظات احترامًا لجراحنا”.

وتابع مجد، “السويداء دفعت ثمنًا كبيرًا، وقدمت مئات من أبنائها دفاعًا عن درعا، مثل رامي الهناوي، وغيره من المنشقين عن جيش النظام الذين رابطوا معنا في السهل”.

وقال، “لم أنظم فعاليات ثورية مع أي طرف كما فعلت مع أبناء السويداء، باستثناء أبناء محافظتي”.

حين ترد درعا الدَّين

منذ 16 من تموز الماضي، تمر السويداء بأزمة إنسانية إثر الاشتباكات بين الفصائل المحلية في السويداء وعشائر البدو وقوات الأمن العام، وسط غياب المواد الأساسية، وانقطاع المحروقات، والازدحام على الأفران، والانهيار في الخدمات.

دخلت بعض قوافل المساعدات، لكنها لم تكن كافية أمام حجم الحاجة، والنزوح الداخلي الذي فاقم الوضع، وفي ذروة الأزمة لم يغِب صوت السهل.

رغم تصاعد التوترات الأمنية، لم تنقطع أصوات التضامن بين السهل والجبل. الناشط السياسي جبير السكري أكد أن درعا لم تكن صامتة إزاء ما جرى في السويداء، بل شهدت مبادرات إنسانية متكررة، تقودها فرق محلية أبرزها فريق “عيون درعا”، إلا أن غياب الأمن حال دون إيصال الدعم بشكل مباشر، حيث منعت فصائل محلية في السويداء عبور المبادرات بطريقة غير مباشرة، عبر رصد الطرق وجعلها غير آمنة.

ورغم هذه التحديات، كانت المبادرات الفردية تحمل كثيرًا من الدفء.

الناشطة نبال النبواني، ابنة السويداء، روت موقفًا وصفته بالمؤثر، قائلة، “أحد رجال درعا، يعمل في تجارة الإسفنج داخل السويداء، قال لي: خذي كل ما في المحل ووزعيه على الأهالي”، وهكذا تجلت إنسانية الجنوب، في موقف بسيط يتجاوز الجغرافيا والسياسة، بحسب النبواني.

اليوم، وبعد النزوح القسري الذي طال العديد من أبناء جبل العرب، فتحت بيوت درعا أبوابها لهم، وفي قرى ناحتة والحراك والكرك الشرقي وأم ولد وبصرى الشام، لم يُعامل أهالي السويداء كضيوف، بل كأهل.

أشار جبير إلى حالة السيدة نوال فخر، التي انتشرت صورة لها مع رئيس الأمن الداخلي في أحد منازل درعا، كرمز للتلاحم في وجه الانقسام.

الجانب الصحي كان شاهدًا آخر على هذا التضامن، فقد استقبلت مستشفيات درعا، وعلى رأسها مستشفى الصنمين، العديد من المصابين، من بينهم الشاب فادي الحلبي وعائلته.

وأكد جبير أنه كان على تواصل مباشر مع مدير الصحة في درعا ومعاون وزير الصحة لضمان علاجهم.

ويختصر قاسم الحريري، من أبناء درعا، هذه الروح بقوله، “لم أعد يومًا من السويداء دون أن أكون محمّلًا بأكياس الزبيب ومكرّمًا بالمناسف، واليوم، أصدقائي من السويداء يسكنون في مضافاتنا، حتى تعود قراهم ومدنهم آمنة وسعيدة. ونحن سنبنيها معًا، كما كنا دومًا”.

درعا والسويداء.. وحدة تتحدى الفتنة

رغم محاولات النظام السوري المتكررة لتفكيك الروابط العميقة بين محافظتي درعا والسويداء، عبر تغذية الانقسامات الطائفية وتحويل الحوادث الفردية إلى خلافات جماعية، ظل أبناء الجنوب السوري يُقاومون هذا النهج بإرثهم المشترك ومواقفهم الأخلاقية.

لم تفلح آلة التحريض في كسر الروح الإنسانية التي تجمع أبناء الجبل والسهل، ففي ذروة التوتر، واصل أطباء من السويداء أمثال الدكتور طلعت عامر، الذي قُتل خلال الأحداث الأخيرة، معالجة جرحى درعا، رغم التهديدات التي وصلت حد الفصل من النقابات.

لم يساوموا على كرامتهم، لأن القيم في الجنوب لا تُقاس بالمال، بل بالإنسانية والتضامن.

الناشط جبير السكري يرى أن العلاقة بين المحافظتين كانت أقرب إلى علاقة “إخوة لا يفرق بينهم سوى الموت”، لكن الأحداث الأخيرة خلّفت جرحًا اجتماعيًا عميقًا، وأسهم التحريض المتعمد في إذكاء التوتر.

“الدماء التي سقطت من الطرفين صنعت حاجزًا نفسيًا يحتاج إلى وقت وجهد لتجاوزه”، قال جبير، مؤكدًا أن دور العقلاء والناشطين والصحفيين سيكون محوريًا في ترميم النسيج الاجتماعي.

وشدد جبير على أن ما جمع المحافظتين لعقود من الجيرة إلى التضحيات المشتركة في مواجهة الاستبداد لا يجب أن يُمحى.

“دماء خلدون زين الدين وكل شهدائنا هي عهد لا يُنسى، ولا يمكن أن تفرّقنا سياسات أو مصالح”.

وأضاف أنه رغم الألم، ما زال أبناء درعا والسويداء متمسكين بأمل مشترك، أن يعيدوا للجبل والسهل روح الثورة التي واجهت بطش النظام السابق كتفًا بكتف.

وختم جبير، “لن نسمح للغرباء أن يكتبوا تاريخنا، ولا للسياسة أن ترسم حدود قلوبنا، نحن أبناء الجبل والسهل معًا، أبناء الثورة، ولن تليق بنا الفتنة”.




×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة