مرحلة انتقالية بلا بوصلة

خبراء يحددون مسارات إنقاذ الاقتصاد السوري

النشاط التجاري داخل سوق الجمرك بحلب - 23 تموز 2025 (محمد مصطو/ عنب بلدي)

camera iconالنشاط التجاري داخل سوق الجمرك بحلب - 23 تموز 2025 (محمد مصطو/ عنب بلدي)

tag icon ع ع ع

عنب بلدي – مارينا مرهج

مع استمرار الأزمة السورية وتعمق آثارها الاقتصادية والاجتماعية، تزداد صعوبة تعريف أو توصيف هوية الاقتصاد السوري بدقة، إذ نعيش في الوقت الحالي حالة انتقال غير مكتملة.

فالاقتصاد لم يكن ضحية الحرب فقط، بل تحول تدريجيًا إلى أداة داخلها، فمنظومة الفساد، وعسكرة الموارد، ونشوء شبكات مصالح نافذة في عهد النظام السابق، صعدت جميعها على أنقاض الدولة، وملأت الفراغ الذي تركته مؤسسات الرقابة والتشريع.

ويواجه الاقتصاد صعوبات على المستوى الداخلي، أهمها تأخر انضمام شمال شرقي سوريا، والأحداث الأمنية في السويداء، وعلى المستور الخارجي تتسابق الأطراف الدولية لفرض أجنداتها عبر بوابة الإعمار المرتقب.

وفي هذا السياق، سألت عنب بلدي خبراء حول توقعاتهم وتصوراتهم في مسألة شكل الاقتصاد السوري، ورسم ملامحه، وتحديد التحديات البنيوية أمام أي مشروع إصلاح أو إعادة بناء.

“أوليغارشية” أم حكم سابق لأوانه

الحديث عن “هوية اقتصادية” لسوريا في الوقت الحالي سابق لأوانه، بحسب الأستاذ في قسم إدارة الأعمال بكلية الاقتصاد بجامعة “دمشق”، الدكتور زكوان قريط.

ويرى قريط أن رسم أي توصيف دقيق لماهية الاقتصاد السوري يتطلب مرحلة استقرار طويلة لم تبدأ بعد.

وأوضح، لعنب بلدي، أنه لا يمكن إعطاء هوية واضحة للاقتصاد السوري إلا بعد عام على الأقل على سقوط نظام الأسد.

بالمقابل، يطرح المؤسس والمدير العام لمركز الشرق للبحوث (ORC)، الدكتور سمير التقي، تصورًا ثنائي المسار، مبنيًا على مشاهدات سياسية- اقتصادية عميقة، بحسب رأيه.

وقال التقي، في حديث إلى عنب بلدي، “نحن لسنا أمام تحوّل واضح نحو الليبرالية، ولا أمام استمرار لنموذج الدولة المسيطرة، بل أمام مفترق طريق بين نموذجين متناقضين هما:

  • الطريق الذي يؤدي عمليًا إلى إعادة تكوين رأسمالية دولة احتكارية فاسدة، تدير فيها البيروقراطية العليا السورية مع عدد من الفاسدين و”الأوليغارش” اقتصادًا رأسماليًا، تعود منافعه عليهم، وهم عمليًا يكتبون الدولة باسمهم.
  • طريق رأسمالية الدولة الليبرالية المنفتحة، القائمة على سيادة القانون، ومناخ استثماري مناسب، أي الرأسمالية الليبرالية المرتبطة بالإنتاج وليس بالأشخاص “الأوليغارش”، الذين ينهبون الثروات ويخرجون بها إلى خارج البلاد، كما حصل في روسيا بعد سقوط الشيوعية”.
    ويرى الدكتور زكوان قريط، من جهته، أن الوضع اليوم ليس “أوليغارشيًا” كاملًا، ولا حرًا تمامًا، بل هو “اقتصاد حر نسبيًا وموجه نوعًا ما”.

 

“الأوليغارشية” أو حكم الأقلية، هي شكل من أشكال الحكم بحيث تكون السلطة السياسية محصورة بيد فئة من المجتمع تتميز بالمال أو النسب أو السلطة العسكرية.

الموسوعة السياسية

 

اقتصاد بيد “الأقوياء” لا بيد المؤسسات

في ظل غياب مؤسسات رقابية وتشريعية فاعلة، تنشأ أشكال من الاقتصاد تُدار خارج المنطق الرسمي أو الضوابط القانونية، الباحث الاقتصادي محمد علبي، يرصد هذا المسار بدقة، ويرى أن شكل الاقتصاد السوري اليوم يقترب من “الأوليغارشية” التقليدية، لكن بخصائص سورية خاصة.

ويوضح، لعنب بلدي، أن هناك مجموعة محدودة من الأفراد أو الشبكات المرتبطة بالسلطة تُحكم قبضتها على الموارد والمفاصل الاقتصادية الأساسية، وتحتكر فرص الاستثمار أو تعمل كسماسرة لها وفق نظام هجين وغامض، فتُهيمن على بيئة الأعمال من دون أي شكل من أشكال الشفافية أو المحاسبة.

وأرجع ذلك إلى المراسيم الاقتصادية الأربعة التي أعلن عنها في 9 من تموز الماضي، إذ تجاوزت السلطة بها صلاحياتها التنفيذية إلى التشريعية، لتقر مراسيم، وتعدل قوانين أو تخرق الدستور فيما يتعلق بمسائل الموازنة العامة والشفافية في إدارة المال العام.

لكنه لا يرى في هذه السيطرة المتنامية للاحتكارات نموذجًا “أوليغارشيًا” ناضجًا، بل يصفه بأنه اقتصاد ظل مفكك، نشأ وسط انهيار المؤسسات وتفكك الجغرافيا وتعدد السلطات النقدية.

 

إن الاقتصاد السوري ما بعد الأسد يعيش مرحلة انتقال غير محسومة، تتجاذبها قوى “أوليغارشية”، ومصالح ميليشيوية، وفراغ مؤسساتي، وغياب مشروع اقتصادي وطني واضح. وهذا التداخل هو ما يُعرقل إمكانيات النمو ويهدد أي محاولة للاستقرار الاقتصادي.

محمد علبي

باحث اقتصادي

لا نهضة اقتصادية دون شرعية سياسية

الاقتصاد السوري ليس مجرد قطاع منفصل يمكن إصلاحه بالأدوات المالية أو التقنية فقط، بل مرآة دقيقة للوضع السياسي، وتجسيد مباشر لصراعات السلطة، وشكل من أشكال إدارة الحرب بوسائل اقتصادية.

ولذلك، فإن أي تصور للهوية الاقتصادية في سوريا لا يمكن أن يكتمل دون تسوية سياسية شاملة، تعيد تعريف الدولة، وتعيد ترتيب العلاقة بين المؤسسات والمجتمع، وتؤسس لعقد اجتماعي جديد، يمنح البلاد ما حُرمت منه طوال سنوات، اتجاهًا واضحًا، وهدفًا جامعًا، وهوية اقتصادية سليمة.

ونوه الباحث الاقتصادي محمد علبي، إلى أن من “السذاجة” الظن أن نموذج اقتصاد ريعي قائم على المساعدات سيدفع بعجلة الاقتصاد وإعادة الإعمار.
وبرأيه، فإن الحل لا بد أن يكون سياسيًا ومؤسساتيًا في المرتبة الأولى، وهناك ثلاثة مسارات مترابطة يجب أن تُعالج بشكل متزامن:

  • تأسيس شرعية سياسية وطنية: إذ لا يمكن إعادة بناء الاقتصاد في ظل غياب تمثيل سياسي حقيقي، في مقدمته وجود سلطة تشريعية، تراقب وتحاسب السلطة التنفيذية، والبدء بتأسيس نموذج لامركزي مالي وإداري، وضبط العلاقة بين الدولة والمجتمع من خلال عقد اجتماعي جديد يحدّد دور الدولة كمنظم وضامن للعدالة الاقتصادية، لا باحتكار الفعل الاقتصادي.
  • إعادة هيكلة النظام النقدي والمالي: توحيد السلطة النقدية عبر تأسيس بنك مركزي انتقالي مستقل، يتولى وضع سياسات نقدية موحدة لكل البلاد، وإعادة هيكلة المصارف العامة والخاصة، ومكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، والسير بعملية تطوير البنية التحتية التقنية لتخفيف الاعتماد على “الكاش”، ووضع إطار قانوني يُخضع المصارف للرقابة، بشكل يمنع الاحتكار ويعيد الثقة بالقطاع المصرفي ويخرج سوريا من القائمة الرمادية لمجموعة العمل المالية الدولية، ويشجع دخول البنوك الأجنبية إليها.
  • تبني نموذج اقتصاد اجتماعي منصف: باعتماد اقتصاد سوق اجتماعي يدمج العدالة مع الكفاءة، ويراعي الفئات الهشة، والنازحين، وذوي الإعاقة، والنساء المعيلات، وسكان المناطق المتضررة والموظفين المسرحين من القطاع العام.

خطوات واقعية لإنعاش الاقتصاد

يطرح الأستاذ في قسم إدارة الأعمال بكلية الاقتصاد بجامعة “دمشق”، زكوان قريط، تصورًا لإجراءات عملية يمكن أن تُشكل نقطة انطلاق لإعادة تشكيل الاقتصاد السوري، خاصة في حال توفر مناخ سياسي داعم.

  • تشجيع الاستثمارات: تقديم حوافز للمستثمرين، تشمل الإعفاءات الضريبية وتسهيل إجراءات تسجيل الشركات، وتطوير بيئة الأعمال.
  •  تنمية القطاعات الإنتاجية: وخاصة في مجالي الزراعة والصناعة، من خلال دعم المزارعين وتشجيع المشاريع الصغيرة والمتوسطة، لتعزيز القدرات المحلية وتأمين فرص العمل.
  • تعزيز التعليم والتدريب المهني: بهدف تأهيل الشباب وتمكينهم من دخول سوق العمل، وتغطية احتياجات السوق المحلي.
  •  استعادة الثقة بين المواطن والدولة: من خلال الشفافية ونشر معلومات حول الميزانية والمشاريع العامة، بالإضافة إلى إشراك المجتمع المدني في اتخاذ القرارات الاقتصادية.

في ظل هذا التعقيد، فإن مستقبل الاقتصاد السوري مرهون بتحولات سياسية عميقة، تتجاوز مرحلة “إدارة الأزمة”، وتؤسس لعقد اجتماعي جديد يضع حدًا للفوضى الحالية، ويعيد الاعتبار لدور الدولة كمنظم لا كفاعل احتكاري.



مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة