الطريق إلى سنغافورة

tag icon ع ع ع

غزوان قرنفل

بعد شهر واحد فقط على سقوط نظام الأسد، وفي بلدة دافوس السويسرية، وقبالة رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، طوني بلير، أطلق أسعد الشيباني وزير الخارجية السوري عبارته الشهيرة التي قال فيها إن الإدارة السورية الجديدة ستستلهم من التجارب الدولية الناجحة، وخاصة من النموذجين السويسري والسنغافوري، لتكون سوريا مكانًا للسلام والتطور والنمو! وبطبيعة الحال، هلل أكثر السوريين واستبشروا خيرًا بهذا القول، واعتقدوا حقًا أن الوزير الشاب لا يطلق كلامًا في الهواء، بل بالتأكيد يأتي هذا ضمن خطة ورؤية تملكها حكومته وستعمل حقًا بكل دأب لتحقيقها.

الحديث عن الإفادة من التجربة السويسرية والحاجة إلى استلهامها يفترض بالضرورة أن لدى الحكومة العتيدة معرفة شاملة ووافية بنظام الحكم السويسري، وطبيعة النظام السياسي الذي يحكم تلك الدولة العريقة، في ديمقراطيتها ورقيها ورفاه عيش مواطنيها، إذ يصل مستوى دخل الفرد فيها إلى ما بين 75 و100 ألف فرنك سويسري سنويًا، أي أكثر من 110 آلاف دولا أمريكي، فهي دولة محايدة ومن أعرق الديمقراطيات الحديثة، ونظامها فيدرالي لأنها تتكون من 26 “كانتونًا” (ولاية)، وكل “كانتون” يمارس حكمًا ذاتيًا واسعًا وله دستوره وبرلمانه الخاص، وأما السلطة التنفيذية لعموم الاتحاد السويسري فهي عبارة عن مجلس فيدرالي مكوّن من سبعة أعضاء يتناوبون على رئاسة الدولة بشكل سنوي، مما يقلل كثيرًا من مركزية السلطة.

هل كان وزيرنا الموقر يعرف تلك التفاصيل عندما أطلق تصريحه الشهير، وهل كان جادًا حقًا فيما صدر عنه؟ أم هو مجرد كلام مرسل باعتبار أن “الخصوصية” السورية، التي تتوكأ عليها كل حكومة تقبض على السلطة في البلاد بكلتا قبضتيها ولا ترخيهما عنها إلا وقد زفر الناس أنفاسهم الأخيرة وفاضت روحهم إلى بارئها، تقتضي نموذجًا مغايرًا يقبض فيه الحاكم الفرد المطلق الإدراك والمعرفة والصلاحية على تلابيب الحكم، ليحمي البلاد من أخطار الانزلاق نحو لوثة الشراكة والمشاركة الوطنية وتوزيع بعض الصلاحيات هنا أو هناك، والتي قد تقودنا لمهالك “الانقسام والتقسيم”!

إذًا، لقد تسرع نجم دبلوماسيتنا الجديدة في تصريحه بشأن استلهام التجربة السويسرية، التي ربما أطلقها على سبيل المجاملة للدولة المضيفة للمؤتمر لا أكثر، وبالتالي فعلينا، نحن المواطنين المصابين بلوثة “النق” والاصطياد بالماء العكر، أن نتجاوزها، ونحاول الانتقال لفهم التجربة السنغافورية التي ربما ليس في نظام حكمها كل هذا التعقيد، وربما تكون أكثر إلهامًا لدولة ضعيفة ومحطمة مثلنا.

والحقيقة أن الاطلاع على تجربة سنغافورة، تجعلك تقف أمام واحدة من أنجح التجارب في التحول من بلد فقير محدود الموارد، إلى قوة اقتصادية عالمية، رغم أنها لا تملك النفط مثلًا، ولا المساحة الجغرافية، أو حتى الموقع الجغرافي المثالي، لكنها امتلكت رؤية ومشروعًا وطنيًا واضح الأدوات والعناصر، وإرادة سياسية كرست مجموعة من المبادئ والأسس التي شكلت أساس نهوضها، فجعلت، عبر تكريس مبدأ المواطنة المتساوية، المواطن قيمة عليا بصرف النظر عن دينه أو مذهبه أو عرقه، وهي الغنية بالأعراق والأديان لكنها لم تقم لذلك وزنًا عندما فكر قادتها بالنهوض في بلدهم وإخراجها من قيعان الفقر والتخلف.

نحن نمشي في سياق معاكس تمامًا لهذا السبيل، ونعمل بدأب لنحفر مزيدًا من القيعان نسقط نحن ومجتمعاتنا فيها، فكيف للمسلم أن يتساوى في الحقوق مع غير المسلم؟ وكيف للسني أن يتساوى في المواطنة مع غيره من أبناء المذاهب الأخرى؟! أولا ترونها قسمة ضيزى!

سيادة القانون واستقلال القضاء مبدأ آخر أسهم إلى حد كبير في نهضة وارتقاء سنغافورة ونجاح تجربتها في الارتقاء والتطور، فلا أحد في سنغافورة فوق القانون، ولا حصانة لأحد فيها من المساءلة والمحاسبة، بينما القانون في بلادنا يتم استغلاله لترسيخ السلطة، ويطبق بانتقائية، والمساءلة عمومًا غائبة ولا مكان لها في أعرافنا وتقاليدنا المتعلقة بممارسة السلطة.

الشفافية في سنغافورة جزء من السلوك الحكومي اليومي والدائم، فالميزانيات معلنة ومكشوفة ومتاحة لاطلاع الجميع، والمواطن شريك في الرقابة على كل حركة وسكون فيما يتعلق بالمال العام وأوجه وسبل إنفاقه، ولا وجود لصفقات خفية ولا لغرف مغلقة تبرم فيها العقود بلا عروض أسعار أو مناقصات أو مزادات، لا شيء من هذا في سنغافورة، بينما نحن وخلال ثمانية أشهر فقط كرسنا نهجًا مغايرًا تمامًا، لا مجال فيه لأي مساحة للشفافية أو حتى لاحترام الآليات والموجبات القانونية المقررة لإنفاذ ذلك.

حرية الرأي وحرية الوصول للمعلومات وحرية الأحزاب وحرية الصحافة، ليست ترفًا، بل هي شرط لا بد منه لأي نهضة نسعى إليها في سوريا، وعندما لا يكون للكلمة الحرة ثمن يؤديه السوري من حياته أو حريته، وعندما لا يطرق بابك العسس بهمجية ويعتقلونك بلا إذن قضائي، عندها يمكن القول إنك مواطن حر، حينها يمكن لك حقًا الإسهام في التنمية التي لا يمكن أن تتم إلا في فضاء من الحريات العامة المحصنة بقوة القانون.

ليس المطلوب استنساخ التجربة السنغافورية، بل استلهام روح تجربتها في بناء دولة مؤسسات، لا دولة أفراد، ودولة قانون لا دولة مخابرات وأمن عام، دولة مواطن لا دولة ولاءات وزبائنية ومشايخ في الظل، فالطريق إلى سنغافورة يبدأ من الاعتراف بأننا طوال الأشهر الثمانية سلكنا طريقًا خاطئًا وعلينا العودة منه قبل أن تطول المسافة أكثر، وقبل أن تتعذر علينا العودة ربما، وما نحن فيه اليوم ليس قدرًا محتومًا علينا.

خلاصنا يبدأ بمشروع وطني يجمع السوريين على أرضية المواطنة والمساواة والعدالة والحريات والشراكة في السلطة والموارد، وكل ما دون ذلك ليس سوى عبث وتكرار للفشل، وتوسيع لدائرة الدمار والاندثار.




×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة