الإعلام.. دروس السويداء والساحل وما هو قادم
علي عيد
هل يتحمل الإعلام جانبًا من المسؤولية عما تشهده سوريا من تفكك اجتماعي غير مسبوق منذ عام 2011، بفعل الحرب الداخلية، والتدخلات الإقليمية والدولية، والأزمات الاقتصادية؟
وأي إعلام نحمله هذه المسؤولية؟ هل هو الإعلام الرسمي الذي لم يعد يملك زمام “الرسالة”؟ أم الإعلام الخاص والمستقل، المحلي والعابر للحدود، والذي تموله جهات خارجية؟ أم وسائل التواصل الاجتماعي التي تتلاعب بها أطراف مجهولة أو هواة ومتحيزون في الداخل، وتسيطر على وعي جمهور منقسم أصلًا، وتحرك غرائزه؟
سوريا بلد غني بتنوعه العرقي والثقافي والديني، وهذا التعدد يحتاج إلى إدارة سياسية ذكية تفهم علاقته بالوحدة الوطنية، وتدرك عوامل التفكك، وتحول هذا الفهم إلى خطة إعلامية واعية، متوازنة، يشارك في صناعتها إعلاميون محترفون ومؤسسات مؤثرة.
السويداء والساحل.. شواهد على عمق الانقسام
ظهر عمق الانقسام، وتأثيره في الإعلام، من خلال أزمتي السويداء الأخيرة، وما سبقها في الساحل. فقد سعت أطراف داخلية وخارجية إلى تقديم هذا التنوع السوري وكأنه تهديد للهوية الوطنية، بدلًا من كونه رافعة لها، ما زاد من الشكوك بين مكونات المجتمع، وعمّق من تعقيد خطاب المصالحة.
سوريا بلد متنوع بنسب تقريبية: العرب السنة يشكلون حوالي 70%، الأكراد (10-12%)، العلويون (10-11%)، المسيحيون (6-8%)، الدروز (3%)، إضافة إلى الشركس، الأرمن، التركمان، والإسماعيليين.
هذا التعدد كان مصدرًا للغنى الاجتماعي والثقافي، لكنه تحول منذ 2011 إلى مادة للتجييش الإعلامي والانقسام السياسي، وعادت إلى السطح كل المشكلات القديمة التي كانت مؤجلة أو مكبوتة.
أربعة عوامل لتفكك المجتمع السوري
- الانقسام الطائفي والسياسي والتنميط
شهد الإعلام، الرسمي والمعارض، خطابًا تعبويًا طائفيًا، ربط العلويين بالنظام، والدروز بالحياد أو المعارضة الصامتة، والأكراد بالفيدرالية، والسنة بالتطرف أو الضحية. هذا التنميط عزز الاستقطاب، بدل أن يعزز الانتماء الوطني. - التهجير والتغيير الديموغرافي
هُجّر أكثر من 13 مليون سوري داخل وخارج البلاد بحسب المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، ما أضعف النسيج الأهلي. كثير من المهجرين العائدين تفاجؤوا بمدنهم: الحلبي أو الدمشقي الذي عاش في أوروبا وجد مدينته قد تغيرت، ومن سكن إدلب رأى مدينة مختلفة تمامًا، بلا ضوابط مجتمعية مألوفة. - الانفلات الإعلامي وضعف الثقة
بحسب دراسات محلية، يعتمد حوالي 75 إلى 80% من السوريين على وسائل التواصل كمصدر للمعلومة. ويُظهر “مؤشر الثقة بالإعلام العربي” لعام 2024 أن 68% من السوريين لا يثقون بالإعلام المحلي.
كما أشارت دراسة للمركز السوري للإعلام وحرية التعبير (2023) إلى أن 61% من المشاركين يرون أن الإعلام أسهم في تعميق الانقسام خلال الحرب، مقابل 24% فقط قالوا إنه ساعد في التفاهم.
- سطوة وسائل التواصل وتلاعبها
مع تراجع الإعلام التقليدي، أصبحت منصات “السوشيال ميديا” اللاعب الأقوى في تشكيل الرأي العام، خصوصًا خلال أزمتي الساحل والسويداء.
لكنها غالبًا ما كانت مساحة للشائعات، والتحريض الطائفي، والتضليل السياسي، تغذيها حسابات وهمية تُدار من الخارج أو من متطرفين بالداخل.
هذا الجو الرقمي خلق فجوة أكبر بين الناس، وفتح المجال لتصفية الحسابات، ما أدى إلى مزيد من التفكك الاجتماعي، وارتفاع منسوب الكراهية والخوف.
التدخل الإسرائيلي الناعم.. حرب إعلامية بلا رصاص
كشفت تقارير دولية، مثل “The Intercept” و”Tracking Exposed”، أن إسرائيل تدير حملات معلوماتية موجهة تستهدف الداخل السوري.
هذه الحملات تركز على إثارة الانقسامات الطائفية، وتشجع على “الفدرلة” أو الانفصال، وتمول شبكات إعلامية رقمية ناطقة بالعربية.
تحقيق لـ”BBC Arabic” حلل أكثر من 400 ألف منشور على منصة “إكس”، وتبيّن أن 60% منها مصدرها حسابات خارج سوريا (من العراق، اليمن، لبنان، إيران). من هذه المنشورات، أكثر من 50 ألفًا حملت معلومات مضللة، وحوالي 100 ألف منشور حرض على العنف والكراهية ضد طوائف معينة.
أما تقرير “The New Arab”، فكشف شبكة تنسيق رقمية تُعيد إنتاج المحتوى التحريضي بشكل ممنهج، مستهدفة تماسك المجتمع السوري.
هذا يؤكد أن ما يجري في الفضاء الرقمي السوري ليس عشوائيًا، بل يتم على نطاق “صناعي” منظم.
الإعلام… الجسر الممكن أم أداة الانقسام؟
المشكلة أعمق من مجرد “نقص معلومات”، بل تتعلق بثقافة إعلامية قائمة على التنميط والتعبئة.
وإذا أراد الإعلام أن يكون جزءًا من الحل لا من الأزمة، فعليه أن:
- يقدم خطابًا جامعًا يراعي التعددية، ويُتيح لكل مكوّن أن يُعبّر عن ذاته بلغته وثقافته.
- يحارب الأخبار الكاذبة وخطابات الكراهية بالمهنية والموضوعية.
- يُسلّط الضوء على قصص التعايش، لا على ثنائيات “الضحية والجاني”.
- يرصد التدخلات الخارجية، ويفكك سردياتها.
لكن الإعلام وحده لا يقدر، ولا بد من تضافر الجهود بين المؤسسات السياسية، والثقافية، والدينية، والمجتمعية، لتنفيذ خطة وطنية تبدأ من الحوار الجاد، وتشمل مشاريع تنموية، وتحاسب الخارجين على القانون، وتحترم الهويات، وتُشرك المجتمعات في القرار، وتعيد للدولة هيبتها.
أخيرًا…
إذا لم يراجع الفاعلون السياسيون والإعلاميون أدوارهم، وإذا لم يتجاوب صانع القرار مع ما يحدث على الأرض من تبدلات عميقة، فالأزمات المقبلة ستكون أشد وطأة.. وللحديث بقية.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :