مأزق التعاقدات في سوريا الجديدة

tag icon ع ع ع

غزوان قرنفل

في مسار أي دولة تسعى للنهوض الاقتصادي والاجتماعي، تمثل الشفافية إحدى الركائز الجوهرية والدعائم القوية لتحقيق تنمية شاملة ومستدامة، فهي ليست مجرد قيمة أخلاقية أو مطلب سياسي، بل أداة ووسيلة عملية لتحسين الحوكمة، وتعزيز ثقة المواطنين بالدولة ومؤسساتها، وجذب المزيد من الاستثمارات، وضمان حسن إدارة المال العام.

دون الشفافية تصبح مشاريع التنمية مجرد شعارات فضفاضة لا تغير من تفاصيل المشهد الاقتصادي المروع الذي تعاني منه بلادنا، وتكون عموم مؤسسات الدولة وأدواتها السلطوية والإدارية معرضة للفساد والمحسوبية، وقاصرة عن بلوغ غاياتها بالضرورة.

فالتنمية إذًا ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمدى التزام الحكومات بمبدأ الشفافية، خاصة فيما يتعلق بإدارة الموارد والمال العام عمومًا، وتسيير الشأن العام، واتخاذ القرارات التي تؤثر في حياة الناس ومصير الأجيال القادمة، لأنه عندما تتاح المعلومات للجمهور، وتدار العقود والمناقصات والعطاءات علنًا وبشكل شفاف، وتتوفر سبل وأدوات مساءلة الجهات المسؤولة عن أدائها، يصبح بالإمكان ضبط الهدر، والحد من الفساد، وتحقيق العدالة في توزيع الفرص.

التجارب العالمية عمومًا تؤكد أن الشفافية تشكل بيئة محفزة للاستثمار الداخلي والخارجي، لأن المستثمرين يبحثون عن مناخ تتوفر فيه قواعد واضحة، وإجراءات تنافسية، وعدالة في المعاملة، بعيدًا عن الغموض أو الصفقات المريبة خلف الأبواب المغلقة، فضلًا عن أن الشفافية تعزز قدرة المجتمع المدني والإعلام على مراقبة الأداء الحكومي ومحاسبته، بما يجعل من التنمية مسارًا تشاركيًا وليس حكرًا على النخب الحاكمة ومواليها.

يبدو هذا المدخل المطوّل ضروريًا في ضوء ما يحصل وما نراه في المشهد السوري، من انعدام للشفافية وانتهاك فظ وتجاهل كامل للآليات القانونية التي يتعين على السلطة العامة اتباعها في التعاقدات والعطاءات والمناقصات، والتي جاء بعضها في القانون رقم “51” لعام 2004 وكذلك في المرسوم التشريعي رقم “450” لعام 2004، وهي قوانين لم يتم إلغاؤها أو تشريع غيرها حتى الآن، وبالتالي هي سارية المفعول وملزمة للجهات العامة ويفترض الالتزام بمضمونها.

لكن ما نشاهده اليوم هو موجة كبيرة من التعاقدات الضخمة التي تبرم بمليارات الدولارات، في مجالات حيوية مثل الطاقة والبنية التحتية والنقل والاتصالات، لكن اللافت والمقلق أن كل هذه التعاقدات تتم بعيدًا عن أعين الرأي العام ورقابته، ودون الإعلان المسبق عن مناقصات أو طلبات استدراج عروض، أو الالتزام بالحد الأدنى من المعايير القانونية التي تنظم عمليات التعاقد والتلزيم.

هذا السلوك ليس فقط يثير القلق لدى الناس بشأن تكريس نمط جديد للفساد، وإنما هو أيضًا انتهاك فاضح لمبدأ تكافؤ الفرص، وهو مبدأ من صلب الإعلان الدستوري الذي تتكئ عليه السلطة الحالية في تأسيس شرعيتها المفترضة، فالعقود تبرم مع شركات بعينها بطريقة انتقائية، وبناء على ولاءات سياسية أو ترتيبات مصلحية، وليس وفقًا للمنافسة العادلة أو الكفاءة الاقتصادية. ووفقًا لذلك، نرى أن شركة تقوم على موظف واحد ورأسمالها لا يعادل أكثر من قيمة سيارة مستعملة، يتم التعاقد معها على بناء أبراج بقيمة ملياري دولار، أو شركة كانت جزءًا من دعم آلة الحرب على السوريين يتم التعاقد معها بمبلغ سبعة مليارات دولار لتوفير الطاقة الكهربائية، دون أي إعلانات رسمية تعلن عن استدراج عروض بهذا الشأن، ما يعني أن الشفافية غائبة تمامًا وعلى مستويين، أولهما غياب أي إعلان رسمي أو علني عن المشاريع أن تباغتك السلطة بإبرام عقودها، وثانيهما يتعلق بحجب تفاصيل تلك العقود التي يتم إبرامها وشروطها، وتفاصيلها، ومدة استثمارها عن الجمهور الذي يملك كامل الحق في المعرفة والرقابة والمساءلة.

إن استنساخ التجربة البعثية- الأسدية والسير على هذا النهج يلحق ضررًا بالغًا بالجهود التنموية، لأنه يفقد الثقة في قدرة السلطة الجديدة على إدارة البلاد بمنطق دولة القانون والمؤسسات، ويكرّس نمط “الدولة العميقة” حيث يدار الاقتصاد بالتحاصص في الغرف المغلقة، فضلًا عن أنه يضعف من كفاءة المشاريع الممولة، إذ قد تنفذ من قبل جهات لا تمتلك المؤهلات الفنية أو الخبرة الكافية، لكنها تحظى بالدعم السياسي، ما يعزز مناخ الريبة والاحتكار، وبالتأكيد يحول عملية “إعادة الإعمار” إلى سوق مغلقة تثري فيها ومن خلالها فئة محدودة على حساب عموم الناس، بدلًا من أن تكون قاطرة للنهوض الشامل.

لم يعد مقبولًا أن تدار شؤون البلاد بمعزل عن الشعب الذي عانى ويلات الحرب وسدد فاتورتها، وإذا كانت السلطة الجديدة تريد فعلًا أن تنأى بنفسها عن ممارسات النظام السابق، فعليها أن تبدأ بإصلاح جذري في ملف التعاقدات العامة عبر الالتزام بالقوانين المعمول بها بهذا الشأن أو إصدار قانون واضح للعقود العامة، يُلزم السلطة بالشفافية والإعلان العلني والمنافسة النزيهة، وكذلك بإشراك الهيئات القضائية والإدارية في مراجعة التعاقدات الكبرى قبل إبرامها، وبإنشاء هيئة مستقلة للرقابة المالية تتابع مسار التعاقدات والتلزيمات وتُصدر تقارير دورية وعلنية ومتاحة للاطلاع، وبتمكين الصحافة والإعلام والمجتمع المدني من ممارسة دورهما في الرقابة والمساءلة المجتمعية.

إن الشفافية هي دعامة التنمية، ولن تنجح عملية بناء سوريا الجديدة دون ترسيخ ثقافة الشفافية والمساءلة، لا سيما فيما يتعلق بإدارة المال العام، فالتنمية ليست عملية تقنية فقط، بل هي قبل كل شيء خيار سياسي وأخلاقي، فإما أن تنطلق على أسس من العدالة والنزاهة وتكافؤ الفرص، أو يعاد إنتاج الاستبداد والفساد بوجه آخر وبأدوات جديدة، ومع الأسف هذا تمامًا ما يحصل حتى الآن.



مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة