حين لا تعكس اللحظة حقيقتنا..
المرحلة الإسعافية للمجتمع السوري
أحمد عسيلي
تعودنا كأطباء، خاصة العاملين في الإسعاف والإسعاف النفسي، أن نرى الإنسان في لحظات الشدة القصوى، في هذه المرحلة، قد يلجأ الشخص إلى أفعال صادمة أو غير مألوفة، لا لأن الفعل غاية بحد ذاته، بل لأنه نداء استغاثة (appel de secours)، في رسالة مشفرة وغير مباشرة تقول: “أنا في خطر، ساعدوني”، أو أن هناك واقعًا ما يتجاوز قدرتنا العادية على الاحتمال.
في غرف الطوارئ تتكرر تلك المشاهد بكثرة، مريض يهدد بالانتحار أو يحاول بطريقة غير قاتلة، شخص يصرخ في مكان عام، أو آخر يكسّر ما حوله، هذه الأفعال، رغم عنفها الظاهر، غالبًا ما تكون طلب نجدة أكثر من كونها رغبة في التدمير، وهنا تحديدًا يبرز دور الطبيب النفسي في التمييز بين حالتين، بين ميول انتحارية أو تدميرية حقيقية، ناتجة عن حالة مرضية ما، وتهدف فعلًا لإنهاء الحياة أو للإيذاء، وبين نداء استغاثة يهدف لجذب الانتباه من أجل تغيير وضع ما.
هنا وضمن هذا السياق أيضًا، الخبرة الإكلينيكية تكشف فارقًا مهمًا آخر، الإنسان في لحظة الشدة لا يشبه نفسه في أوقات الراحة. أحيانًا أرى مريضًا في الطوارئ مضطرب المظهر والكلام، فأعطيه موعدًا طبيًا بعد يومين لأجد إنسانًا أكثر هدوءًا، بخطاب أكثر عقلانية من حالته في الإسعاف، وأحيانًا أتابع حالته في العيادة لعام أو أكثر، فيتضح كم تختلف صورته في الأزمة عن صورته في الاستقرار.
في ثقافتنا، يقال إن “حقيقة الإنسان تُعرف وقت الشدة”، لكن ما أراه يوميًا يجعلني أقول إن هذا صحيح في حالات قليلة فقط، فغالبًا الشدة تُظهر نسخة مؤقتة ومشوَّشة من الشخص، وليست جوهره، لهذا نذكّر المريض دائمًا بأن ما بدر منه في الأزمة لا يختصر هويته، وأنه يجب فهمه في سياق الحالة الطارئة.
هذا الدرس الطبي ينطبق أيضًا على المجتمعات، فهي في الأزمات الوجودية قد تُطلق نداءات استغاثة جماعية: شعارات قصوى، رموزًا صادمة، أو تحالفات مفاجئة، هذه الأفعال قد يراها الآخرون قناعات راسخة، لكنها نفسيًا، تشبه محاولة المريض لفت الأنظار بأي وسيلة في الطوارئ، المثال الأقرب هو ما جرى مؤخرًا في السويداء، حين رُفع العلم الإسرائيلي في بعض المظاهرات، المشهد كان صادمًا، لكنه قد يُقرأ كصرخة نجدة أكثر منه تحالفًا دائمًا، خاصة إذا وُضع في سياق الانسداد السياسي وفقدان الثقة بالخيارات التقليدية.
التطرف في المواقف، كما تؤكد دراسات علم النفس الاجتماعي، سلوك مكرر في ظروف الشدة. تحت الضغط، تميل الجماعات إلى الآراء الحادة، ليس دائمًا بدافع قناعة مستقرة، بل كرد فعل دفاعي يمنح شعورًا بالقوة أو الحسم. في الأزمات، تظهر أحيانًا أفعال لم تكن ممكنة في الأوقات العادية، تشبه ما كنا نقرأ عنه في العصور الأوربية الوسطى، عقاب جماعي قاسٍ لمغنٍّ بسبب موقف سياسي سابق، كما حدث مؤخرًا في إدلب، أو اغتصابات جماعية مروعة في لحظات الانفلات الأمني، كما جرى ذات مرة في ميدان التحرير بمصر بعد سقوط نظام الإخوان، وحتى في الحالة السورية، شهدنا نداءات بلغت حد الشوفينية من أطراف متقابلة، سواء من بعض أهالي السويداء أو من مجموعات بدوية وامتداداتها في أوروبا.
الأخطر أن لحظة الشدة قد تتحول إلى أزمة ثانية، حين يستعيد الفرد أو المجتمع صورته عن نفسه في تلك المرحلة، بعض المرضى يدخلون في اكتئاب عميق بعد أن يتذكروا كيف تصرفوا أو بدوا في الإسعاف، ويظنون أن تلك اللحظة هي حقيقتهم الكاملة، هنا يأتي دورنا أيضًا كمختصين بإعادة وضع الأمور في سياقها: ما جرى كان ظرفًا استثنائيًا، لا هوية دائمة، وإذا لم يحدث هذا الفصل، تتحول الأزمة الطارئة إلى وصمة طويلة المدى.
المجتمعات تحتاج إلى المعالجة نفسها، إذا ثبّتت صورة ذاتها استنادًا إلى مرحلة إسعافيه عابرة، ستختزل هويتها في أسوأ حالاتها وأكثرها تشوشًا، السوريون يعرفون هذا من تجربتهم القريبة. في 2013، بعد موجات اللجوء الكبرى، أصبح “اللاجئ” هو الصورة العالمية للسوري، حتى صارت الروايات والأفلام الأجنبية تختزل الهوية السورية في خيمة ومعبر وحدود، لم يُنظر إلى هذه الصورة كنتاج ظرف طارئ، بل كهوية دائمة، وهو ما كان له أثر طويل الأمد على كيفية رؤية السوري لنفسه وكيف يراه الآخرون، لدرجة أننا رأينا بعض السوريين الذين يتنصلون من هويتهم نتيجة حملها الثقيل والمرهق.
الخلاصة أن صورة الإنسان، فردًا كان أو جماعة، لا يجب أن تُبنى في مرحلة عدم الاستقرار القصوى. هذه لحظة طارئة، مليئة بالانفعال والتطرف، وليست وقتًا لرسم ملامح الهوية النهائية. السيطرة على النفس، وتأجيل الحكم على الذات أو الجماعة، هو شكل من أشكال النضج والوقاية، فالصور التي تُرسم في العاصفة قد تلتصق طويلًا، حتى بعد أن تهدأ الرياح.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :