الصحفي بين الرأي الشخصي والالتزام المؤسسي
علي عيد
من الطبيعي أن يكون لكل صحفي منبره الخاص على وسائل التواصل الاجتماعي، فهو في النهاية بشر له آراؤه وميوله، لكن الخطر يكمن حين تتحول هذه المنصات إلى منبر ينافس المؤسسة الإعلامية التي يعمل فيها الصحفي، أو وسيلة لنشر انطباعات ومعلومات تناقض ما تقدمه تلك المؤسسة، بما قد يضر بسمعتها أو رسالتها.
لهذا تعتمد وسائل الإعلام العريقة سياسات واضحة لتنظيم نشاط صحفييها على المنصات الرقمية، فـ”هيئة الإذاعة البريطانية” (BBC)، على سبيل المثال، تلزم موظفيها بعدم التعبير عن أي مواقف سياسية مثيرة للجدل على وسائل التواصل، حتى من حساباتهم الشخصية، وتعتبر ذلك شرطًا أساسيًا للحفاظ على الحياد.
وتشمل المخالفات التعبير عن آراء شخصية حول قضايا سياسية أو اجتماعية مثيرة للجدل، أو نشر أي محتوى قد يُفسر على أنه تحيز سياسي أو تحريض على الكراهية، بل قد يُعتبر الإعجاب بمنشور أو إعادة نشره مخالفة تستوجب العقوبة.
وتتدرج الإجراءات التأديبية لدى “BBC” من التنبيه وإجراء تحقيق داخلي، إلى الإيقاف المؤقت عن العمل أو إخضاع الصحفي لتدريب إلزامي حول سياسات وسائل التواصل، وصولًا إلى الفصل النهائي في حالات التحريض أو تكرار المخالفات.
أما صحيفة “النيويورك تايمز” (The New York Times) فتوصي في دليلها الداخلي موظفيها بتجنب أي تعليقات يمكن أن “تقوض الثقة في نزاهتهم الصحفية”، وتحذر من التفاعل المفرط مع محتوى منحاز سياسيًا. وتشمل المخالفات نشر تعليقات مسيئة أو تحريضية، أو الانضمام إلى مجموعات ذات توجهات سياسية واضحة، أو مشاركة أخبار لم يتم التحقق منها بعد.
وفي كانون الثاني 2021، فصلت الصحيفة الصحفية لورين وولف (Lauren Wolfe) بعد نشرها تغريدة على حسابها الشخصي في “تويتر” (المعروف حاليًا باسم “إكس”) قالت فيها إنها شعرت بـ”القشعريرة” عند رؤية طائرة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، تهبط قبل تنصيبه.
اعتبر هذا التعبير دليلًا على تحيز يتعارض مع مبدأ الحياد، وأدى إلى إنهاء عقدها بعد يومين، ما أثار جدلًا واسعًا حول حدود حرية التعبير للصحفيين على حساباتهم الشخصية، وما إذا كان رد الفعل متناسبًا مع الواقعة.
وفي “هيئة الإذاعة الكندية” (CBC)، يلتزم الصحفيون بالقواعد المهنية نفسها سواء نشروا عبر منصات المؤسسة أو عبر حساباتهم الخاصة، وتسمح اللوائح باتخاذ إجراءات تأديبية في حال المخالفة.
ويرى بعض المدافعين عن حرية الصحافة أن هذه السياسات قد تقيّد حق الصحفي كمواطن في التعبير عن رأيه، ويستشهدون بالقوانين الأوروبية التي تكفل هذا الحق، مثل المادة “10” من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، التي تنص على أن “لكل شخص الحق في حرية التعبير”، مع السماح بفرض قيود “ضرورية في مجتمع ديمقراطي” لحماية سمعة الآخرين أو ضمان حياد الإعلام العام.
لكن التجربة تشير إلى أنه حتى الدول الديمقراطية تفرض قيودًا عملية، ففي آذار 2023، أوقفت قناة “فرانس 24” أربعة صحفيين، ثلاثة منهم في النسخة العربية، بسبب منشورات سابقة على حساباتهم الشخصية اعتبرتها القناة “معادية للسامية”. جاء القرار بعد بلاغ من منظمة “لجنة دقة التغطية الإعلامية للشرق الأوسط في أمريكا” (CAMERA) تضمّن منشورات يدعم فيها الصحفيون المقاومة الفلسطينية أو يعرضون وجهات نظر مخالفة لسياسة المؤسسة.
أما في سوريا، فيلاحظ غياب الانضباط في التزام الصحفيين بخطوط مؤسساتهم، لا سيما في الإعلام الرسمي. ويُعزى ذلك أحيانًا إلى ضعف مدونات السلوك أو غياب سياسات واضحة تنظم نشاط الصحفي خارج مهامه الرسمية، خصوصًا حين يكون شخصية عامة مؤثرة، مثل مقدمي البرامج في التلفزيون أو الإعلاميين على المنصات الرسمية.
ولا تقتصر الإشكالات على القضايا السياسية، بل تمتد إلى قضايا اجتماعية أو قضائية أو حتى جرمية قد تتحول إلى قضايا رأي عام يصعب على مؤسسات الدولة احتواؤها في نطاقها الطبيعي.
في ظل فوضى خطاب الكراهية والنزاعات المجتمعية، تبرز الحاجة الملحّة لمدونات سلوك واضحة للصحفيين، سواء على مستوى كل مؤسسة، أو كمدونة عامة تنظم العمل في القطاع الصحفي، بما يحقق التوازن بين حرية التعبير والمسؤولية المهنية.. وللحديث بقية.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :