توقيع اتفاقية بين هيئة المنافذ البرية والبحرية و شركة موانئ دبي العالمية - 13 تموز 2025 (سانا)
بين الوعود والتنفيذ.. مذكرات التفاهم الاستثمارية في سوريا
ملهم جزماتي
بعد 14 عامًا من التحديات الاستثنائية التي واجهتها سوريا، تشهد البلاد اليوم بوادر تفاؤل حقيقية مع الإعلان عن سلسلة من مذكرات التفاهم الاستثمارية بقيم تتجاوز العشرين مليار دولار في عام 2025، هذا التطور الإيجابي جاء في أعقاب رفع العقوبات الأمريكية في أيار 2025، مما فتح المجال أمام عودة الشركات الدولية للاستثمار في السوق السوري بعد انقطاع طويل.
من المهم أن نضع هذه التطورات في سياقها الصحيح، فبعد سنوات من العزلة الاقتصادية والتحديات الهيكلية، يُعتبر اهتمام الشركات الدولية بتوقيع مذكرات تفاهم مع الحكومة السورية مؤشرًا إيجابيًا على الثقة المتزايدة في إمكانيات التعافي الاقتصادي.
صحيح أن التجارب الدولية تشير إلى أن نسبة تحويل مذكرات التفاهم إلى اتفاقيات ملزمة تتراوح بين 60-70% في الاقتصادات المتقدمة، وتنخفض إلى 25-40% في الاقتصادات الناشئة، وقد تصل إلى 20-30% في الحالات الانتقالية مثل سوريا، لكن حتى هذه النسب المتحفظة تعني استثمارات محتملة بقيمة 4-6 مليارات دولار، وهو رقم جيد جدًا لاقتصاد يسعى للتعافي.
الأهم من الأرقام هو الرسالة الإيجابية التي تحملها هذه المذكرات: سوريا تعود تدريجيًا إلى الخريطة الاستثمارية العالمية، والمجتمع الدولي يبدي استعدادًا للمشاركة في عملية إعادة البناء الاقتصادي.
عودة الثقة الدولية
لعل أبرز ما يميز مذكرات التفاهم الموقعة في 2025 هو الدعم الغربي الواضح لها، والذي تجسد في حضور المبعوث الأمريكي الخاص توماس باراك لمراسم توقيع مذكرة التفاهم الكبرى في قطاع الطاقة بقيمة 7 مليارات دولار وتكرر حضوره أيضًا خلال مراسم توقيع العديد من الاستثمارات القطرية والاماراتية في البنى التحتية السورية. هذا الحضور رفيع المستوى ليس مجرد بروتوكول دبلوماسي، بل رسالة واضحة من الإدارة الأمريكية بدعمها للاستثمارات في سوريا وثقتها في مسار التعافي الاقتصادي.
لكن من المهم أيضًا أن نفهم طبيعة مذكرات التفاهم ودورها في العملية الاستثمارية، هذه الوثائق رغم أنها لا تحمل التزامات قانونية ملزمة، تمثل خطوة أولى ضرورية في بناء الثقة بين المستثمرين والحكومة السورية، فهي تتيح للأطراف استكشاف إمكانيات التعاون وتقييم الجدوى الاقتصادية والفنية للمشاريع المقترحة قبل الالتزام بتنفيذها فعليًا.
في السياق السوري، تكتسب مذكرات التفاهم أهمية خاصة لأنها تمثل عودة الثقة الدولية بعد سنوات من العزلة، الشركات الدولية تحتاج إلى وقت لتقييم البيئة الاستثمارية الجديدة وفهم التطورات السياسية والاقتصادية، حيث أن مذكرات التفاهم توفر لها هذا الوقت دون الالتزام بمخاطر مالية فورية، ومن جهة أخرى تستخدم الحكومة السورية هذه المذكرات لإرسال رسائل إيجابية إلى المجتمع الدولي حول جديتها في الانفتاح الاقتصادي وتهيئة بيئة جاذبة للاستثمار. هذا النهج التدريجي والمدروس يعكس نضجًا في التعامل مع التحديات المعقدة التي تواجه عملية التعافي الاقتصادي.
مذكرات التفاهم: من الطاقة إلى البنية التحتية
من خلال النظر للتسلسل التاريخي لتوقيع مذكرات التفاهم الموقعة منذ يوم التحرير، نجد أن هناك استراتيجية مدروسة في اختيار القطاعات وترتيب الأولويات. هذا التدرج الاستراتيجي كان قد بدأ بتوقيع مذكرات تفاهم لدعم قطاع الطاقة، ثم تلاها مذكرات تفاهم مع شركات صينية لتطوير المنطقة الصناعية في عدرا، ثم توقيع مذكرات أخرى لتطوير البنية التحتية لمطار دمشق وخطة لإنشاء مترو في العاصمة ومشاريع سكنية أخرى، الأمر الذي يعكس فهمًا عميقًا للتحديات الهيكلية التي تواجه الاقتصاد السوري وضرورة معالجتها بطريقة منهجية ومتسلسلة.
إن البدء بقطاع الطاقة ليست صدفة، بل هو خيار استراتيجي مخطط له. حيث تمثل الطاقة حجر الأساس للانطلاق في بناء اقتصاد متهالك دمرته الحرب طوال 14 عامًا، ثم الانتقال بعدها رويدًا رويدًا لتطوير باقي القطاعات كالطرق والبنى التحتية في دمشق وباقي المحافظات السورية.
لكن هذا التدرج الذكي يطرح أيضًا تساؤلات حول التنسيق بين المشاريع المختلفة، كيف ستضمن الحكومة أن تقدم مشاريع الطاقة تتماشى مع احتياجات مشاريع البنية التحتية؟ وما هي الآليات المطلوبة لضمان التكامل بين هذه المشاريع بدلًا من تنفيذها كمشاريع منفصلة مع بعضها البعض؟
ولكن رغم ذلك يبقى التدرج الذكي في مذكرات التفاهم مؤشرًا إيجابيًا على وجود رؤية استراتيجية واضحة لدى الحكومة السورية، فهذا النهج المنهجي إذا تم تنفيذه بنجاح يمكن أن يخلق دورة اقتصادية إيجابية، بحيث أن نجاح كل قطاع يؤدي دعم نجاح القطاعات الأخرى، مما يعزز من جاذبية البيئة الاستثمارية السورية ككل.
التحديات: واقع يجب مواجهته بحكمة
رغم الإيجابيات الكثيرة، من المهم الاعتراف بوجود تحديات حقيقية تواجه عملية تحويل مذكرات التفاهم إلى استثمارات فعلية، يمكننا التحدث عن تحديات مثل النظام المصرفي السوري المتهالك الذي يحتاج إلى تطوير وتحديث ليتماشى مع المعايير الدولية، فرغم رفع العقوبات الأمريكية لا تزال هناك حاجة لبناء الثقة مع المؤسسات المالية الدولية، وهذا يتطلب شفافية أكبر في العمليات المصرفية وتطبيق معايير الامتثال الدولية.
أيضًا إن هجرة الكوادر المتخصصة خلال سنوات الحرب تركت فجوة في الخبرات التقنية والإدارية، لكن هذا التحدي يمكن معالجته من خلال برامج تدريب مكثفة وجذب الكوادر السورية المهاجرة للعودة والمساهمة في عملية إعادة البناء.
أيضًا تعتبر ضعف الحوكمة من أهم التحديات الداخلية التي تواجه مذكرات التفاهم حيث تثير العلاقة بين هيئة الاستثمار ووزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية تساؤلات مهمة حول وضوح آليات صنع القرار والحوكمة المؤسسية، فبينما تتمتع الهيئة بصلاحيات واسعة في منح إجازات الاستثمار، تبقى وزارة الاقتصاد الجهة المشرفة على السياسات الاقتصادية العامة، مما يخلق أحيانًا تداخلًا في الصلاحيات قد يؤثر على سرعة اتخاذ القرارات.
هذا الغموض في تحديد المسؤوليات يصبح أكثر وضوحًا عند التعامل مع الاستثمارات الكبيرة التي تتطلب موافقات على مستويات عليا، المستثمرون الدوليون الذين اعتادوا على التعامل مع هياكل إدارية واضحة ومحددة قد يجدون صعوبة في فهم من هو المخول فعليًا باتخاذ القرارات النهائية في بعض الملفات الاستثمارية المعقدة، كما أن عدم وجود آليات شفافة ومعلنة لتقييم المشاريع الاستثمارية وترتيب أولوياتها يثير تساؤلات حول عدالة التعامل مع جميع المستثمرين، لذلك تحتاج الهيئة إلى تطوير معايير واضحة ومعلنة لتقييم المشاريع، وآليات شفافة لاتخاذ القرارات، وقنوات واضحة للتواصل مع المستثمرين حول مراحل دراسة مشاريعهم.
معايير اختيار الشركات: تساؤلات حول الشفافية والكفاءة
تثير عملية اختيار الشركات الموقعة على مذكرات التفاهم تساؤلات مهمة حول المعايير المستخدمة وآليات التقييم المتبعة، فبينما تحمل هذه المذكرات أرقامًا ضخمة وطموحات كبيرة، يبقى السؤال الأساسي: هل اختيار الشركة المناسبة للتوقيع معها بناء على تقييم القدرات الفنية والمالية لهذه الشركات بطريقة دقيقة وشفافة؟
مثال واضح على هذا التحدي يظهر في مذكرة التفاهم الموقعة مع الشركة الإيطالية لتطوير مشروع “أبراج دمشق” بقيمة استثمار تزيد عن ملياري دولار، هذا المشروع الذي يهدف إلى إنشاء مجمع تجاري وسكني ضخم في العاصمة يتطلب خبرات تقنية ومالية هائلة. لكن التساؤل المشروع هو: هل تمتلك هذه الشركة الإيطالية الخبرة الكافية في تنفيذ مشاريع بهذا الحجم والتعقيد؟
مراجعة سريعة لسجل الشركة تكشف أن معظم مشاريعها السابقة كانت أصغر حجمًا وأقل تعقيدًا من المشروع المقترح في دمشق، هذا لا يعني بالضرورة عدم قدرتها على التنفيذ، لكنه يثير تساؤلات حول معايير التقييم المستخدمة في عملية الاختيار. هل تم تقييم المشاريع السابقة للشركة؟ هل تم فحص قدرتها المالية على تمويل مشروع بهذا الحجم؟ هل تم التأكد من وجود الخبرات التقنية اللازمة في فريق عملها؟
هذه التساؤلات تصبح أكثر إلحاحًا عندما ندرك أن فشل مشروع واحد كبير يمكن أن يضر بسمعة البيئة الاستثمارية السورية ككل ويؤثر على ثقة المستثمرين المستقبليين، المستثمرون الدوليون يراقبون بعناية كيفية تعامل الحكومات مع المشاريع الكبيرة، وأي إخفاق في التنفيذ يمكن أن يرسل إشارات سلبية إلى السوق.
من ناحية أخرى، قد تكون هناك اعتبارات أخرى وراء اختيار هذه الشركات لا تظهر في الإعلانات الرسمية، ربما تكون الشركة الإيطالية جزءًا من تحالف أكبر يضم شركات أخرى ذات خبرة أوسع، أو ربما تكون هناك ضمانات حكومية أو مؤسسية تدعم المشروع، لكن غياب هذه المعلومات عن الخطاب العام يخلق فجوة في الشفافية قد تؤثر على مصداقية العملية برمتها.
الحاجة ملحة لتطوير معايير واضحة ومعلنة لتقييم الشركات المتقدمة للمشاريع الاستثمارية، هذه المعايير يجب أن تشمل تقييمًا دقيقًا للقدرة المالية، والخبرة التقنية، والسجل التاريخي في تنفيذ مشاريع مشابهة، والقدرة على الحصول على التمويل اللازم. كما يجب أن تكون هناك آليات شفافة لنشر هذه المعايير وتطبيقها بعدالة على جميع المتقدمين.
هذا النهج الشفاف في التعامل مع اختيار الشركات لن يحسن فقط من جودة المشاريع المنفذة، بل سيعزز أيضًا من ثقة المجتمع الدولي في جدية الحكومة السورية في تطبيق معايير الحوكمة الرشيدة، إن نجاح مذكرات التفاهم لا يعتمد فقط على الأرقام المعلنة، بل على قدرة الشركات المختارة على تحويل هذه الأرقام إلى مشاريع ناجحة على أرض الواقع.
تفاؤل مبرر بالمستقبل
مذكرات التفاهم الموقعة في 2025 تمثل بداية مرحلة جديدة في تاريخ الاقتصاد السوري، فبعد أربعة عشر عامًا عانت سوريا خلالها من تدمير ممنهج، تشهد اليوم عودة تدريجية للثقة الدولية واهتمامًا متزايدًا من قبل المستثمرين العالميين.
النجاح في تحويل هذه المذكرات إلى استثمارات فعلية سيكون له تأثير إيجابي كبير على الاقتصاد السوري والمجتمع ككل، فهو لا يعني فقط تحسن الخدمات الأساسية وخلق فرص العمل، بل يعني أيضًا عودة سوريا إلى مكانها الطبيعي كلاعب مهم في الاقتصاد الإقليمي والعالمي.
التفاؤل مبرر، لكنه يجب أن يقترن بالعمل الجاد والمثابرة. مذكرات التفاهم هي البداية، والمستقبل يعتمد على قدرة جميع الأطراف المعنية على تحويل هذه النوايا الطيبة إلى واقع ملموس يخدم التنمية المستدامة والازدهار الاقتصادي.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :