خريطة طريق من أجل العدالة
غزوان قرنفل
تكشف التداعيات المأساوية للأحداث الدامية في الساحل السوري، ثم ما تلاها من محاولة استنساخ ذات التجربة في السويداء، عمق الأزمة الأخلاقية والقانونية التي تعصف بسوريا، وباتت تهدد سلامتها الجغرافية وسلامة بنيانها الوطني.
التقرير الأخير للجنة التحقيق الأممية المتعلق بأحداث الساحل السوري واحد من أخطر مؤشرات هذه الأزمة، وستكشف نفس اللجنة أو لجنة مماثلة مستقبلًا في تقريرها عما حصل في السويداء عن كارثة مشابهة سيتكرر فيها تعداد ووصف الجرائم التي ستشمل مرة أخرى إعدامات خارج نطاق القانون، وقتلًا وتعذيبًا ونهبًا واستباحة وخطفًا وسبيًا في مقتلة طائفية مروّعة. وسيتكرر القول إن قوى حكومية وأخرى عشائرية ارتكبت تلك الأفعال لدى محاولتها إخضاع منطقة رفضت الامتثال لسلطة مهجوسة بالكيفية التي تجعل من “ابن تيمية” نبراسًا وطنيًا على الجميع الامتثال لآرائه وفتاواه الدموية، أكثر مما هي مهجوسة بكيفية تقديم الخدمات الأساسية للناس وتوفير سبل العيش الآدمي لهم.
أزعم أنه لا حاجة للخوض في تفاصيل التقرير الأممي، فغالبًا اطلع على مضامينه معظم السوريين، وغالبًا لم يرق لأغلبيتهم لأنه عرّى الحقائق الدامغة وسمّى القوى والأدوات التي ارتكبت تلك الفظاعات بأسمائها، وطالب السلطات باتخاذ ما يلزم من إجراءات تجاه ذلك، والتي طالما حاول بعضهم مواراتها واتهام من كشفها أو كتب عنها بالعمالة وبالحقد على “السنّة” أو بالحنين لنظام الأسد.
لكن ما يثير الدهشة والغرابة حقًا هو حفلة التطبيل والتزمير الإعلامي لعبارة وردت في هذا التقرير، الذي يُفترض أن يهز الضمير المجتمعي كما هو الحال في أي مجتمع طبيعي يتمتع بحد أدنى من الحس الأخلاقي والوجدان القويم. نجد أن هؤلاء انصرفوا للاحتفال بعبارة تقول: “إن اللجنة لم تجد دليلًا على وجود خطة أو سياسة مركزية لشن هذه الهجمات، رغم الإشارة إلى طبيعتها المنهجية”، اعتقادًا منهم أن ذلك يبرئ السلطة التي ينافحون ويستبسلون في الدفاع عنها حقًا وباطلًا. بينما الحقيقة العارية تتيح لنا القول إن الفهم الحقيقي للطبيعة المنهجية المشار إليها يجعلها بمثابة سلوك معتاد ومسكوت عنه، وبالتالي لم يعد يحتاج لتوجيه أو إصدار أوامر حكومية لارتكاب تلك الأفعال الجرمية.
فالجرائم الممنهجة هي جرائم ارتُكبت، ثم تكرر ارتكابها مرة أو مرات أخرى، ولم يُحاسب أو يُساءل عنها مرتكبوها، حتى صارت نهجًا معتمدًا أو مسكوتًا عنه، وهذا يؤكد أكثر مسؤولية الحكومة عن الجرائم المرتكبة، ولا ينفي تلك المسؤولية عدم وجود أوامر أو توجيهات بارتكابها.
لنلاحظ معًا أن ما هو مشترك بين كل هذه الأحداث، سواء في الساحل أو في السويداء، هو ملمح واحد اسمه العنف المسلح، وانهيار مفهوم دولة القانون، وتصاعد الشعور بإمكانية الإفلات من العقاب.
لذلك يبدو أنه بات من الضروري، ليس فقط فيما يخص الجرائم الجديدة، بل أيضًا لمعالجة إرث الظلم الطويل في عهد الأسد، وعدم طي الصفحة بطريقة مهينة للضحايا ولألم السوريين جميعًا، العمل على إرساء قواعد لخريطة طريق واضحة للعدالة تقوم على إطلاق آلية فورية للتحقيق والملاحقة في الجرائم والانتهاكات المرتكبة في الساحل والسويداء. وتشمل هذه الآلية اعتقالات جادة، ومحاكمات شفافة وعادلة بحق كل المتورطين في تلك الجرائم المفجعة، بغض النظر عن انتمائهم. كل ذلك دون الخلط أو التخلي عن مسار العدالة الانتقالية أو الإخلال بوظيفة ودور الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية، التي عليها أيضًا تحديد خريطة عملها بشكل واضح وعلني، وتحديد النطاق الزمني للجرائم التي ستكون ضمن مجال عملها، ونوعية تلك الجرائم، والآليات القضائية التي ستتبعها بشأنها، فضلًا عن الآليات غير القضائية المتعلقة بآثار تلك الجرائم وهذا الإرث الثقيل من الانتهاكات، رغم ما يؤخذ عليها من محدودية صلاحيتها بشأن الجرائم المتعلقة بنظام الأسد فحسب.
وكما هي حاجتنا للعدالة والإنصاف ملحّة، فإن حاجتنا لإصلاح المؤسسات القضائية والعسكرية والأمنية ليست أقل إلحاحًا. فنحن بحاجة إلى إصلاحات جذرية وفي العمق، في مؤسسة القضاء أولًا ثم في الجهاز الأمني، بشكل يضمن نزاهتها وحياديتها في إنفاذ القانون، والحؤول دون تكرار الانتهاكات، ومساءلة عناصرها عندما يفعلون ذلك، حماية للحريات العامة وللحقوق الفردية، وتكريسًا لمبدأ سيادة القانون.
إن خريطة الطريق لا تكتمل، بل لا تبدأ أصلًا، دون حوار وطني جاد يسعى لخلق حالة تشاركية في بناء الوطن الجديد وتحديد أطر وطنية لفعل ذلك. فالحوار الحر وحده هو الضمان الحقيقي لسلامة الأوطان، أما حوار الرصاص والسكاكين فلن ينتج إلا مذابح ومآسي وبرك دم لا تجف. حينها لن يبقى شيء نختلف أو نقتتل عليه اسمه سوريا.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :