إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان

tag icon ع ع ع

غزوان قرنفل

من أسمى القواعد التي أرستها التجربة الإنسانية وتجلت في النصوص الدينية، تلك القاعدة الذهبية التي تقول: “إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان”.

صحيح أن هذه القاعدة جاءت أصلًا في سياق الرابطة الزوجية، إلا أن حكمتها وطيفها أوسع من ذلك بكثير، وهي صالحة لأن تكون مرشدًا في توكيد وترسيخ العلاقات الإنسانية السوية والمنصفة، سواء أكانت بين الأفراد أو بين الجماعات والشعوب.

هذه القاعدة في جوهرها تختزن فكرة بسيطة وعميقة، مؤداها أنه عند تعذّر استمرار الشراكة بالعدل والاحترام المتبادل، فلا ينبغي أن تفرض أو تستمر بالقوة والإكراه، بل لا بأس أن يصار إلى الفكاك منها بطريقة حضارية وسلمية تحفظ الحقوق والكرامات.

ونحن حين ننظر إلى واقع الأوطان المتعددة المكونات من قوميات وأديان ومذاهب، نجد أن هذه القاعدة تصلح كدستور للعلاقة الوطنية، باعتبار أن الوطن في جوهره ليس ملكًا لفئة دون أخرى، ولا ساحة لممارسة الاحتكار والهيمنة، بقدر ما هو عقد اجتماعي يتأسس على رابطة المواطنة، وهذه الرابطة تعني أن كل فرد وكل جماعة هم شركاء متساوون في الحقوق والواجبات في هذا الوطن، ولا فضل لأحدهم على الآخر إلا بما يقدمه للوطن من إسهام يطوره أو يرتقي به، لكن حين تتحول المواطنة إلى مجرد شعار أجوف أو نص دستوري ميت، بينما يحتكر طرف بعينه السلطة والثروة والقرار، حينها تصاب الرابطة الوطنية بالانكسار والتسمم، وتغدو شبيهة بزواج قسري مبنى على الإكراه لا على القبول والرضا، وحين تتراكم المظالم وتتعمق الجراح، لا يبقى أمام المكونات الوطنية إلا خياران واضحان، إما إعادة بناء عقد المواطنة على أساس العدالة والمساواة والعيش المشترك، أو البحث عن انفصال حضاري يحفظ كرامة الجميع إعمالًا لمبدأ “إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان”.

هذا ما فعلته تشيكوسلوفاكيا في بدايات تسعينيات القرن الماضي بعد انهيار المنظومة الشيوعية، عندما استحال الاتفاق بين التشيك والسلوفاك على شكل الدولة واقتصادها ومستقبلها السياسي، حينها لم ينزلق أي منهما نحو صراع دموي، بل خرج الطرفان باتفاق طلاق “مخملي” جعل لكل منهما دولة دون أدنى حاجة لإهدار الكرامات أو استباحة الحيوات.

بخلاف ما سبق الطلاق السوداني من حروب وصراعات دموية دامت عقودًا بين الشمال والجنوب، لم تفضِ إلا إلى ملايين القتلى واللاجئين واستباحة الموارد وتعطيل التنمية، وماذا كانت النتيجة بعدها؟ انفصال الجنوب عن الشمال، بينما كانت المطالب قبل الانزلاق نحو لعبة الدم ومن ثم التقسيم مجرد مشاركة الجنوبيين في السلطة والثروة والتنمية وعدم تهميشهم!

إن المقارنة بين التجربتين تسلط الضوء على حقيقة جوهرية تقول إن خيار الانفصال يكون مطروحًا فقط حين يستحيل العيش المشترك، لكن الفرق بين “طلاق حضاري” و”طلاق دموي” يكمن في كيفية إدارة هذا الخيار، وفي مدى احترام حقوق كل طرف وكرامته.

في السياق السوري، يبدو هذا النقاش أكثر حضورًا في المشهد العام من أي وقت مضى، فقد أثبتت السنوات الماضية أن إدارة البلاد على أساس من الغلبة والقهر وتهميش بقية المكونات، وإن طال أحيانًا، لا يمكن أن يستمر، وبالتالي فإما أن يعاد بناء الدولة على أسس جديدة، تجعل من المواطنة المتساوية حقيقة راسخة يعمل بها لا مجرد شعار أجوف، وإما أن تستمر دوامة العداء والتفكك، بما قد يدفع بعض المكونات إلى التفكير بخيارات أخرى مهما كانت تكلفتها عالية.

إن من موجبات خيار “الإمساك بمعروف”، إن كنا راغبين باستمرار العيش المشترك والتعايش بود وسلام واحترام وإخاء، العمل الجاد على صياغة عقد اجتماعي عادل يقوم على الحرية والعدالة والمساواة وتكافؤ الفرص ورفض احتكار السلطة ومركزيتها حتى لا نصل إلى خيار الطلاق البائن.

مع الأسف يبدو أن خيار السلطة الجديدة وممارساتها، حتى الآن على الأقل، تدفع بوعي وإرادة منها، أو بجهل وشعور بفائض القوة، نحو تفكيك البنية الوطنية السورية وفرض حالة إخضاع كامل على عموم المجتمع لمصلحة مشروع إسلاموي تعتقد أنه الحصن الآمن الذي يحميها ويحصنها من مغادرة السلطة يومًا، غير عابئة بمترتبات هذا السلوك وما يدفع إليه على مستوى قدرة الحفاظ على وحدة سوريا.

كثير من النخب السورية السياسية والاقتصادية أبدت رفضها واستياءها من المسار الذي اختطته السلطة لعملها، وطريقة إدارتها لشؤون البلاد، ودعت السلطة بدافع من حرصها على بلدها إلى توسيع دائرة المشاركة، وطالبت بعقد مؤتمر وطني ليكون مؤتمرًا تأسيسيا لجمهورية جديدة تقطع مع الماضي الاستبدادي، يتوافق فيه السوريون على المبادئ الوطنية والدستورية الرئيسة والثابتة، لكن مع الأسف لا تزال السلطة لا تعير تلك المطالب أي انتباه، وتتفرغ للاستجابة لإملاءات الخارج توسلًا لشرعية تظنها دائمة!

إن استمرار العلاقة السامة ليس قدرًا، فإما أن تتحول الشراكة الوطنية إلى عقد عادل يضمن المساواة والكرامة لكل السوريين على اختلاف مشاربهم وأفكارهم وقومياتهم ومذاهبهم وعلى قدم المساواة بينهم، أو أن نتحلى بالشجاعة الكافية للبحث عن طلاق حضاري، بعيدًا عن الحروب والدماء والقبور، ولنعلم أن الخيار والقرار ما زال حتى الآن على الأقل بأيدينا، فألهم يا رب عقولنا سبل الرشاد.



مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة