هل شركة “غوزناك” خيار صائب لطباعة العملة السورية؟

tag icon ع ع ع

غزوان قرنفل

في ظل أزمة اقتصادية خانقة، وانهيار في قيمة الليرة السورية، تتجه الحكومة السورية نحو خيار يبدو، للوهلة الأولى، خطوة تقنية بحتة، لكنه في عمقه يحمل دلالات سياسية واقتصادية بالغة الخطورة.

بحسب تقرير نشرته وكالة “رويترز”، من المنتظر أن توكل دمشق إلى شركة “غوزناك” الروسية مهمة طباعة العملة السورية الجديدة، وهو شيء يبدو منسجمًا مع سياسة الانفتاح على موسكو التي سعت دمشق لانتهاجها مؤخرًا، غير أن النظر في الخلفية الدولية للشركة الروسية، والتهم الموجهة إليها، يكشف أن هذا الخيار قد يكون بمثابة قفزة في المجهول، بل وقد يعزز من عزلة سوريا بدلًا من أن يسهم في تخفيفها.

فهذه الشركة مثقلة بالعقوبات، وهي شركة روسية حكومية مسؤولة عن طباعة الأوراق النقدية والمستندات الرسمية، تقف منذ سنوات في قلب عاصفة العقوبات الدولية، حيث أدرجتها العام الماضي وزارة الخزانة الأمريكية على قائمتها السوداء بتهمة تقديم الدعم لمكتب الأمن الفيدرالي الروسي عبر منتجات حساسة تستخدم في أغراض أمنية، وهو ما يضعها مباشرة في خانة المؤسسات المرتبطة بالأنشطة الأمنية والعسكرية التي تستهدفها العقوبات، لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فقد وجهت إليها اتهامات أكثر خطورة تتعلق بتورطها في طباعة عملات ليبية مزيفة تجاوزت قيمتها المليار دولار، وهو ما أدى إلى مفاقمة الأزمة الاقتصادية في ليبيا وإلى تدهور قيمة الدينار الليبي.

هذه السابقة تجعل أي دولة تختار التعامل مع شركة “غوزناك” عرضة للريبة، بل وللعقوبات، لأنها تتعاون مع شركة ثبت تورطها في محاولة تقويض استقرار اقتصادات دول أخرى، إلى جانب ذلك، فقد سبق للاتحاد الأوروبي أن فرض قبل عامين عقوبات على الشركة نفسها، متهمًا إياها بالمساهمة في تقويض سيادة أوكرانيا من خلال طباعة جوازات سفر ومستندات في المناطق التي احتلتها روسيا.

هذه الخطوة الأوروبية تبعتها إجراءات مماثلة من بريطانيا وسويسرا ونيوزيلندا، حيث وضعت الشركة على قوائمها السوداء بذريعة تهديد استقرار أوكرانيا، وهو ما يجعل من “غوزناك” واحدة من أكثر الشركات إثارة للجدل على الساحة المالية الدولية.

المفارقة في خطوة الحكومة السورية والتي تثير الاستغراب والقلق، أنها تقدم على خيار التعامل مع شركة بهذا السجل في لحظة حساسة تسعى فيها جاهدة لإقناع المجتمع الدولي بضرورة رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، والمسؤولون السوريون لطالما يكررون على المنابر الدبلوماسية والإعلامية أن العقوبات الغربية تعرقل عملية إعادة الإعمار وتفاقم معاناة السوريين، وأن دمشق بحاجة إلى إعادة دمج اقتصادها في المنظومة العالمية، بما يدفعنا للتساؤل حول كيف يمكن التوفيق بين هذا الخطاب وبين إسناد مهمة سيادية وحساسة مثل طباعة العملة الوطنية إلى شركة موضوعة على قوائم العقوبات الأمريكية والأوروبية والبريطانية؟!

إن الرسالة التي تبعث بها دمشق عبر هذه الخطوة تبدو مناقضة تمامًا لأهدافها المعلَنة، فهي عمليًا تقول للعالم إنها غير معنية بالتجاوب مع المطالب الدولية، بل مستعدة للتعاون مع أكثر الشركات إشكالية من حيث السمعة والعقوبات، وهذا الخيار لا تقتصر خطورته على البعد السياسي والدبلوماسي فقط، بل تمتد إلى المخاطر الاقتصادية المباشرة، إذ إن التعامل مع شركة خاضعة لعقوبات يعني أن أي تداول للعملة الجديدة قد يواجه عراقيل في الأسواق المالية، ويجعل المصارف الأجنبية أكثر ترددًا في التعامل مع النظام المصرفي السوري، كذلك قد يشكك المستثمرون في مشروعية هذه العملة أو في صلاحية تداولها، ما يضعف ثقة الداخل والخارج بها على حد سواء، إضافة إلى ذلك، فإن مجرد ارتباط اسم “غوزناك” بتجربة طباعة عملة ليبية مزيفة يفتح الباب أمام مخاوف مشروعة حول مستوى الشفافية والجودة في العملة السورية المنتظرة والضمانات من عدم القيام بالمثل تجاه العملة السورية أو أن يتحول الأمر برمته لأداة ضغط وابتزاز روسية على الحكومة السورية والاقتصاد السوري الذي يعاني أصلًا من ضعف شديد في الأداء وفي ثقة المواطنين بعملتهم الوطنية، ولن يحتمل خطوة تضيف مزيدًا من الشكوك إلى المشهد.

ربما واجهت دمشق أو قد تواجه بعض الصعوبات في إيجاد شركات ترغب بالتعامل معها في ظل العقوبات الدولية، وهذا ما قد يفسر، جزئيًا، قرارها اللجوء إلى “غوزناك”، غير أن الاعتماد على شركة مثقلة بالعقوبات لا يمكن أن يكون سوى إجراء يعمق المشكلة بدلًا من معالجتها، وربما كان الأجدر بالحكومة السورية أن تبحث عن مقاربة مختلفة في هذا السياق، كالطلب من الدول التي شنّفت آذاننا برفع العقوبات دون أن نلحظ أثرًا حقيقيًا لذلك، أن تقوم هي بطباعة العملة السورية الجديدة وعدم دفع الحكومة السورية لمثل الخيار الذي لجأت إليه.

خلاصة القول، إن قرار التعاقد مع شركة “غوزناك” الروسية لطباعة العملة السورية الجديدة يبدو وكأنه رسالة خاطئة في توقيت غير مناسب، فبينما تحاول دمشق أن تقدّم نفسها كدولة ترغب في الانفتاح وتسعى لرفع العقوبات والانخراط مجددًا في الاقتصاد العالمي، تأتي هذه الخطوة لتعزز الشكوك بأنها لا تزال تراهن على سياسات قصيرة النظر تقوم على التحايل والمناورة بدلًا من السعي لحلول مستدامة تعيد بناء الثقة داخليًا وخارجيًا، وفي هذا السياق، لا أعتقد أنه كان من الصواب سواء لأهداف سياسية أو قانونية أو تقنية اللجوء لطباعة العملة الوطنية عبر شركة مدرجة على قوائم العقوبات الدولية ولها سوابق في محاولات العبث باقتصادات دول ودعم السياسات الروسية، ما سيجعل ربما مسار رفع العقوبات أكثر تعقيدًا، ويضع البلد مجددًا في مواجهة غير محمودة العواقب مع المجتمع الدولي.



مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة