كي لا نقع في الخطأ مرتين

tag icon ع ع ع

أحمد عسيلي

شهد السوريون في الأسبوع الماضي سلسلة من الأحداث المتباينة في ظاهرها، والمتقاربة في مضمونها، البداية كانت مع مقال كتبه ياسين الحاج صالح تحدّث فيه عما سمّاه “الشوفينية السنية”، وهو توصيف يندرج ضمن مساره الفكري وتحولاته في السنوات الأخيرة. المقال أثار نقاشًا واسعًا أكثر مما ينبغي، ليس فقط حول مضمونه بل أيضًا حول أثر المصطلح نفسه في واقع سوري هش.

وبالتزامن، تقريبًا، خرج علينا الشيخ الهجري من السويداء بدعوة صريحة إلى إقامة إقليم درزي مستقل، تبعها نشاط في أوساط الجاليات الدرزية بأوروبا، حيث دعت لتنظيم مظاهرات ووقفات احتجاجية في مختلف المدن الأوربية، بخطاب مطابق تقريبًا لخطاب شيخهم، وتزامن مع كل ذلك ظهور بيان تأسيسي لمجلس جديد حمل اسمًا يوحي بالوطنية: “مجلس شمال وغرب سوريا”، غير أن جوهره كان دعوة لإقليم علوي في الساحل، أعادت إلى الأذهان خطابات “الكيان العلوي”. المثير أن هذا الإعلان أيضًا حظي بتغطية إعلامية واسعة تفوق حجمه بكثير.

ثلاثة أحداث متزامنة تكشف عن منبع واحد، التأسيس لخطاب معارض قائم على أساس الهوية الطائفية فقط، في لحظة كان يُفترض أن ينحسر تدريجيًا لمصلحة خطاب جامع وطني، وهنا يبرز السؤال، هل تضر هذه الدعوات بالسلطة أو بحلفائها المحافظين؟ الجواب، بكل بساطة بالنفي، بل على العكس، فهي تدفع المكوّن السني، الخارج لتوه من حكم طائفي شرس، للشعور بالخطر، فالخوف دومًا يقود إلى الانغلاق الهوياتي (repli identitaire) بدل الانفتاح، وهذا ما يمكن ملاحظته لدى الطرفين .

بهذا المعنى، المعارضة هنا لا تضعف الجناح المحافظ في السلطة بل تقدّم له أكبر خدمة، وعلى طبق من ذهب، إذ يمنحها فرصة لتغذية خوف الأكثرية من التهميش، ما يدفعهم للالتفاف حول خطاب سنّي واضح أو حتى حول النظام نفسه باعتباره الأمان الأخير، ولأن المعارضة السورية الموجودة حاليًا تحمل ملامح طائفية واضحة، فإن هذا الانغلاق سيبدو استجابة طبيعية، النتيجة، دوامة جديدة، حيث يُعاد إنتاج الخوف الطائفي بأدوات معارضة في ظاهرها، لكنها في العمق تخدم استمرار البنية نفسها.

هذه الآلية ليست جديدة علينا كسوريين، فنظام الأسد مارسها منذ عقود حين ضخّم خطر “الطليعة المقاتلة” لـ”الإخوان المسلمين”، رغم أن عددهم لم يكن يتجاوز الثلاثة آلاف شاب، لكنه صوّرهم كخطر وجودي يهدد الدولة كلها، ما زاد من تشبث القاعدة الشعبية به، وعمّق خوف الطائفة العلوية من انهياره، حتى بعد عقود طويلة من اختفاء التنظيم، ظلّت المدارس تُلقّن الأطفال شعارات تحذر من “عدو” لم يعد موجودًا، إنها آلية تقوم على الإنكار وخلق “عدو وهمي” عبر آلية الإسقاط (mécanisme de projection)، لتبرير القبضة الأمنية وإدامة الشرعية.

لا يعني هذا أن المعارضة وحدها مسؤولة، فالسلطة هي من وضعت المسرح أولًا، حين صاغت السياسة على قاعدة الطائفية، وحوّلتها إلى معادلة أمنية- هوياتية، السلطة لم تكن مجرد مستفيد من الأخطاء، بل هي المهندس الأول لها عبر استثمار الخوف وصناعته، لذلك حين تعيد المعارضة إنتاج الخطاب الطائفي، فهي تلعب ضمن الملعب الذي رسمته السلطة وبالأدوات التي تركتها لها .

اليوم، لا يحتاج المعارضون سوى قليل من التضخيم ليجد النظام نفسه مستفيدًا مرة أخرى، فالشيخ الهجري بالنهاية مجرد رجل دين محلي، وفكرة قيامه بتوحيد 40 تنظيمًا مسلحًا ستعطي انطباعًا وكأنه قائد جيش حقيقي، مع أن مشروع استقلال السويداء بالأصل غير عملي، ولن يجلب لأهلها سوى الضرر والحصار، أما المجلس الساحلي فلن يتجاوز حدوده على “فيسبوك”، وكتابات ياسين الحاج صالح ليست جديدة، لكن تضخيم هذه الأحداث يكفي لتغذية المخاوف، ومن ثم إعادة اصطفاف الأكثرية خلف النظام أو خلف خطاب طائفي مضاد.

هكذا نعود إلى النقطة الأولى، الخوف يولّد الانغلاق، والانغلاق يعيد إنتاج الانقسام، إنها أبجدية السياسة قبل أن تكون نظرية في التحليل النفسي، ومع ذلك نكرر الخطأ للمرة الثانية، كأننا لم نتعلم شيئًا من التاريخ، من تضخيم “الطليعة المقاتلة” في السبعينيات إلى خطاب “الشوفينية السنّية” وأقاليم السويداء والساحل اليوم، النتيجة واحدة، مزيد من التشبث بالسلطة، حتى وهي أقل همجية مما كانت عليه، ومزيد من انسداد أفق التغيير.

يجب أن نتوقف عن ممارسة سياسة مفتاحها الخوف والمشاعر واللعب على أوتارها، آن أوان الانتقال إلى سياسة العقل والتفكير والمحاكمة المنطقية، حيث تقاس المواقف بميزان الوعي لا بميزان الانفعال، ولن يتحقق ذلك إلا بجرأة تأسيس معارضة حقيقية، ليست طائفية لا انفعالية، لا جارية لدى عواصم الخارج ولا حالمة بخطابات مجردة، بل واقعية، هدفها الأول حماية الأرواح، كل الأرواح بلا أي استثناء، سواء قوات الأمن أو المجالس العسكرية المعارضة، وبناء مشروع وطني جامع. الخطاب غير الطائفي لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية، الشرط الوحيد لكسر الدائرة المغلقة وفتح أفق جديد يعيد للسياسة معناها وللسوريين إمكانية العيش معًا من جديد.



مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة